الصوت اللغوی فی القرآن

اشارة

الصوت اللغوی فی القران
محمدحسین علی الصغیر
موضوع:
قرآن - مسائل ادبی
سرشناسه فارسی علی الصغیر، محمدحسین
محل انتشاربیروت = دارالمورخ العربی = ۱۴۲۰ ق
صفحه۲۱۵ ص .
شناسه هاقرآن - مسائل لغوی = عنوان
رده بندی كنگره
BP،۸۲،/ع۸ص۹
رده بندی دیویی
۲۹۷،/۱۵۳
اللغوی فی القرآن
alsout allghoui fi alkra'n
تألیف: محمد حسین علی الصغیر تاریخ النشر: 01/01/2000
الناشر: دار المؤرخ العربی السلسلة: موسوعة الدراسات القرآنیة
النوع: ورقی غلاف عادی،
حجم: 24×17،
عدد الصفحات: 214 صفحة
الطبعة: 1 مجلدات: 1
نام كتاب: الصوت اللغوی فی القرآن
نویسنده: محمد حسین علی الصغیر
موضوع: اعجاز ادبی
تاریخ وفات مؤلف: معاصر
زبان: عربی
تعداد جلد: 1
سال چاپ: 1420 / 2000
نوبت چاپ: اوّل‌

المقدمة:

بسم اللّه الرحمن الرحیم هذا بحث قد یكون جدیدا فی موضوعه، أو أصیلا فی نتائجه، و لا أدعی ذلك كونی صاحب هذا البحث، أو كاتب فصوله المتواضعة، و لكن طرافة موضوعه، و جدة مباحثه، و دقة تطبیقاته ساقت لمثل هذا الادعاء.
هناك جدب حضاری لدی جملة من المثقفین، و طائفة من المستشرقین، یوحی بأصالة النظریات النقدیة و الفنیة و اللغویة فی الدراسات الأوروبیة، دون ریادة لحضارة الأمة العربیة التی أسست معالم الثقافة و الفن و الإبداع.
و قد جاء هذا البحث مؤصلا للنظریة العربیة فی علم الأصوات:
Phonetics
التی تطورت فیما بعد للتخصص فی علم الصوت الوظیفی:
التشكیلی‌Phonology و كان مجال ذلك تطبیقا و تنظیرا فی أرقی نصّ عربی، و هو القرآن الكریم، لذلك فالصوت اللغوی فی حیاة التراث لیس جدیدا، و لكنه فی القرآن- فیما أزعم- یوحی بالجدة و الطرافة و الحداثة.
فالقرآن كتاب اللّه العظیم، و معجزة محمد صلی اللّه علیه و آله و سلّم الخالدة، و تطبیق البحث الصوتی قرآنیا، و فیه صعوبة و معاناة، و تسخیر مفاهیم الصوت للقرآن لیس أمرا یسیرا، فالقرآن و هو عربی العبارة یتسع لمئات الجزئیات فی العربیة، و العربیة و هی عالمیة اللغة تسیر مع العالم فی أصواته السابحة،
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 6
فاللغات أصوات، و مهمة هذا البحث ضم هذه المفاهیم فی وحدة فنیة لا تنفصل، فخاض غمار هذا الموضوع الشائك، و خرج بجملة صالحة من النتائج و الكشوف التی أرجو متفائلا أن تضیف شیئا ما للمكتبة القرآنیة بخاصة، و المكتبة العربیة بعامة، و المكتبة الصوتیة فی العالم مطلقا.
إن التماس النظریات الصوتیة المعقدة فی رحاب القرآن العظیم مما یحتاج إلی الصبر و الأناة، و استكناه فصائل هذا الملحظ الدقیق مما یدعو إلی الترصد و التصدی و الاستنتاج، فالصوتیات علم سبق إلیه علماء العربیة فیما ثبت للبحث، و تناوله الأوروبیون بالنقد و التمحیص فی ضوء أجهزة العلم المتطورة، و كان حصیلة هذا السبق و هذا التناول المزید من الدراسات المنهجیة المتقدمة التی ما زال للبحث فیها فضل استزادة و زیادة، و للباحث فیها موطن تشبث و استقراء. بید أن إخضاع هذه المقاییس الفنیة فی الأشكال، و الموازین الصوتیة فی القیاسات لمحكم الآی المجید لا یتأتی بیسر و سماح، و لا یتم بتجوال مجمعی بسیط، فلیس السبیل معبّدا، و لا المعالم من الوضوح بحیث تستوعب استیعاب المسلمات البدیهیة، فقد تتخلل هذا و ذاك العقبات التنظیریة، و قد تعیقه قلة المصادر و الموارد، فیبقی الفكر متكلا علی عبقریته فی الإبداع، و البحث معتمدا علی سجیته فی الاستنباط، و الباحث بینهما قد یخطئ و یصیب، و الأسنّة من حوله مشرعة، فهو بإزاء مقارنة صعبة، و خیارات أهونها ذو عسرة و شدة متصلتین، حتی لیضیق- أحیانا- بالحدیث حذر المتاهات، و تجاوز صلب الموضوع.
و مهما یكن من أمر ما قدمناه، فقد ترعرع هذا البحث المستفیض فی خصائص الصوت القرآنی و ملامحه و ممیزاته فیما لم یسبق إلیه صوتیا فی ستة فصول انتظمت شمل هذا الكتاب، أشیر إلیها هنا بالتسمیة، و أحیل معها علی خاتمة البحث فی استلهام النتائج، و استقراء الحقائق التی أرجو أن أفید منها و یفید الجیل ما نتبصر به بین یدی كنوز القرآن، و مكنونات التراث، و فضل العربیة علی اللغات:
الفصل الأول، و عنوانه: (أبعاد الصوت اللغوی).
و قد تناول بالبحث المركز المفردات الآتیة:
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 7
1- مصطلح الصوت اللغوی.
2- تقسیم الصوت بین العرب و الأوروبیین.
3- تطور الصوت اللغوی.
4- نظریة الصوت اللغوی.
الفصل الثانی، و عنوانه: (منهجیة الدرس الصوتی).
و قد تناول بالبحث المنهجی المفردات الآتیة:
1- الخلیل بن أحمد و مدرسته الصوتیة.
2- الصوت فی منهجة سیبویه.
3- الفكر الصوتی عند ابن جنی.
4- القرآن و الصوت اللغوی.
الفصل الثالث، و عنوانه: (البحث اللغوی فی فواتح السور القرآنیة).
و قد تناول بالبحث و التمحیص المفردات الآتیة:
1- القرآن یوجه اهتمام العرب للصوت اللغوی.
2- أصناف الأصوات اللغویة فی فواتح السور عند الباقلانی.
3- جدولة الصوت اللّغوی فی فواتح السور عند الزمخشری.
4- الصدی الصوتی للحروف المقطعة عند الزركشی.
5- القرآن فی تركیبه الصوتی من جنس هذه الأصوات.
الفصل الرابع، و عنوانه: (الصوت اللغوی فی الأداء القرآنی).
و قد كشف المفردات الآتیة:
1- أصول الأداء القرآنی.
2- مهمة الوقف فی الأداء القرآنی.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 8
3- نصاعة الصوت فی الأداء القرآنی.
4- الصوت الأقوی فی الأداء القرآنی.
5- توظیف الأداء القرآنی فی الأحكام.
الفصل الخامس، و عنوانه: (الصوت اللغوی فی فواصل الآیات القرآنیة).
و قد تناول بالبحث التحلیلی المفردات الآتیة:
1- مصطلح الفاصلة فی القرآن.
2- معرفة فواصل القرآن صوتیا.
3- ظواهر الملحظ الصوتی فی فواصل الآیات.
4- الإیقاع الصوتی فی موسیقی الفواصل.
الفصل السادس، و عنوانه: (الدلالة الصوتیة فی القرآن).
و قد تناول مظاهر الدلالة الصوتیة، و لمس أبعادها المتشعبة فی المفردات الآتیة:
1- دلالة الفزع الهائل.
2- الاغراق فی مدّ الصوت و استطالته.
3- الصیغة الصوتیة الواحدة.
4- دلالة الصدی الحالم.
5- دلالة النغم الصارم.
6- الصوت بین الشدة و اللین.
7- اللفظ المناسب للصوت المناسب.
و كانت خاتمة البحث فی إجمال النتائج التی توصل إلیها. و اقتضت طبیعة البحث المتنوعة أن تكون مصادره القدیمة و مراجعه الحدیثة ذات أصناف ثلاثة:
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 9
أ- كتب الأصوات قدیمها و حدیثها، عربیها و أوروبیها.
ب- كتب علوم القرآن و التفسیر و القراءات.
ج- كتب اللغة و التراث و الأدب و البلاغة و النقد. و بعد، فلا أدعی لهذا البحث الكمال، و لا لمباحثه الشمولیة و الاستیعاب، و لكنه جذوة من ألف القرآن الهادی، و نفحة من عبیرة الفیاض، وضع شاخصا فی معالم الطریق، عسی أن ینتفع به الناس و أنتفع:
«یوم لا ینفع مال و لا بنون‌إلا من أتی اللّه بقلب سلیم» و ما توفیقی إلا بالله العلی العظیم، علیه توكلت و إلیه أنیب، و هو حسبنا و نعم الوكیل.
النجف الأشرف الدكتور محمد حسین علی الصغیر أستاذ فی جامعة الكوفة
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 11

الفصل الأول أبعاد الصوت اللغوی‌

اشارة

1- مصطلح الصوت اللغوی 2- تقسیم الصوت بین العرب و الأوروبیین 3- تطوّر الصوت اللغوی 4- نظریة الصوت اللغوی
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 13

مصطلح الصوت اللغوی:

الصوت لغة: الجرس، و الجمع أصوات: قال ابن السكّیت: الصوت صوت الإنسان و غیره، و الصائت: الصائح، و رجل صیّت: أی شدید الصوت «1».
و رجل صائت: حسن الصوت شدیده.
و كل ضرب من الأغنیات صوت من الأصوات «2».
و تعریف الصوت مرتبط بأبعاده و موارده، و متعین بتقییده بمراده، و قد أعطی الراغب (ت: 502 ه) خلاصة دقیقة لهذه المصادر، بعد اعتباره الصوت الهواء المنضغط عن قرع جسمین، و هما ضربان:
صوت مجرد عن تنفس بشی‌ء كالصوت الممتد، و تنفس بصوت ما.
و المتنفس نوعان: غیر اختیاری كما یكون من الجمادات و الحیوانات.
و نوع اختیاری كما یكون من الإنسان، و هو ضربان:
1- ضرب بالید كصوت العود و ما یجری مجراه.
2- ضرب بالفم فی نطق و غیر نطق.
فالمنطوق منه: إما مفرد من الكلام، و إما مركب كأحد الأنواع من
______________________________
(1) ظ: ابن منظور، لسان العرب: مادة: صوت.
(2) الخلیل، كتاب العین: 7/ 146.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 14
الكلام. و غیر النطق: كصوت النای «1».
و قد ثبت علمیا أن الصوت اهتزازات محسوسة فی موجات الهواء، تنطلق من جهة الصوت، و تذبذب من مصانعه المصدّرة له، فتسبح فی الفضاء حتی تتلاشی، و یستقر الجزء الأكبر منها فی السمع بحسب درجة تذبذبها، فتوحی بدلائلها، فرحا أو حزنا، نهیا أو أمرا، خبرا أو إنشاء، صدی أو موسیقی، أو شیئا عادیا مما یفسره التشابك العصبی فی الدماغ، أو یترجمه الحس المتوافر فی أجهزة المخ بكل دقائقها، و لعل فی تعریف ابن سینا (ت: 428 ه) إشارة إلی جزء من هذا التعریف، من خلال ربطه الصوت بالتموج، و اندفاعه بسرعة عند الانطلاق، فهو یقول: «الصوت تموج الهواء و دفعه بقوة و سرعة من أی سبب كان» «2».
و لا كبیر أمر فی استعراض تمرس علماء العربیة بهذا النمط من الدراسات و التحدیدات، و هذا النحو من تلمس الصوت فیزیائیا، و قیاس سرعته و مساحته أمواجیا فقد سبق إلیه جملة من الباحثین «3».
و الصوت غنائیا: تعبیر عن كل لحن یردد علی نحو خاص من الترجیع فی الشعر العربی له طریقة محدودة، و رسم یعرف به، لأن الأصوات: مجموعة مختارة من أغانی العرب القدیمة و المولدة فی أشعارها و مقطعاتها «أمر الرشید المغنین عنده أن یختاروا له مائة صوت منها فعینوها له. ثم أمرهم باختیار عشرة فاختاروها، ثم أمرهم أن یختاروا منها ثلاثة ففعلوا. و حكی أن هذه الثلاثة الأصوات علی هذه الطرائق المذكورة لا تبقی نغمة فی الغناء إلا و هی فیها فی ألحان موسیقیة ثلاثة هی: لحن معبد، و لحن ابن سریج، و لحن ابن محرز، فی جملة من الشعر العربی «4».
و تسمیة هذه الألحان بالأصوات ناظرة إلی الغناء لأنه تلحین الأشعار
______________________________
(1) الراغب، المفردات: 288.
(2) ابن سینا، أسباب حدوث الحروف: 7.
(3) ظ: للتفصیل كلا من: إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 129- 145 خلیل العطیة، فی البحث الصوتی عند العرب: 6- 11 المؤلف، منهج البحث الصوتی عند العرب:
بحث.
(4)- ظ: أبو الفرج، الأغانی: 1/ 7 و ما بعدها.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 15
الموزونة بتقطیع الأصوات علی نسب منتظمة معروفة، یوقع كل منها إیقاعا عند قطعه فتكون نغمة، ثم تؤلف تلك الأنغام بعضها إلی بعض علی نسب متعارفة، فیلذ سمعها لأجل ذلك التناسب، و ما یحدث عنه من الكیفیة فی تلك الأصوات. و ذلك أنه تبین فی علم الموسیقی أن الأصوات تتناسب، فیكون صوت نصف صوت، و ربع آخر، و خمس آخر، و جزءا من أحد عشر من آخر، و اختلاف هذه النسب عند تأدیتها إلی السمع یخرجها من البساطة إلی التركیب «1».
و الصوت لغویا: «عرض یخرج مع النفس مستطیلا متصلا حتی یعرض له فی الحلق و الفم و الشفتین مقاطع تثنیه عن امتداده و استطالته، فیسمی المقطع أینما عرض له حرفا، و تختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها» «2» هذا التعریف لابن جنی (ت: 392 ه-) و هو معنی بملامح الصوت اللغوی دون سواه، بدلیل تحدیده مقاطع الصوت التی تثنیه عن الامتداد و الاستطالة، و یسمی وقفة الانثناء مقطعا فی صیغة اصطلاحیة دقیقة، نتناولها بالبحث فی موضعه، و یسمی المقطع عند الانثناء حرفا، و یمیز بین الجرس الصوتی لكل حرف معجمی بحسب اختلاف مقاطع الأصوات، فتلمس لكل حرف جرسا، و لكل جرس صوتا.
و لما كانت اللغة أصواتا یعبر بها كل قوم عن أغراضهم «3». فالصوت بوصفه لغویا فی هذه الدراسة یعنی: تتبع الظواهر الصوتیة لحروف المعجم العربی، و فی القرآن العظیم بخاصة لأنه حقل البحث، و ذلك من حیث مخارج الأصوات و مدارجها، و أقسامها و أصنافها، و أحكامها و عللها، و دلائلها و خصائصها فی أحوال الجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة، و ملامح صوائتها و صوامتها فی السكون و عند الحركة، و ضوابطها فی الأطباق و الانفتاح، مما یتهیأ تنظیره من القرآن، و یتوافر مثاله الفرید من الكتاب،
______________________________
(1) ظ: ابن خلدون، المقدمة: فصل فی صناعة الغناء.
(2)- ابن جنی، سر صناعة الأعراب: 1/ 6.
(3) ابن جنی، الخصائص: 1/ 33.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 16
ضمن موازنة محدثة، و رؤیة صوتیة معاصرة، استلهمت التراث فی ثرائه، و تنورت الجدید فی إضاءته، فسارت بین هذین مسیرة الرائد الذی لا یكذب أهله.
و من هنا فقد توصل هذا البحث إلی أن الأوائل من علماء العربیة قد مهدوا بین یدی الأوروبیین جادة البحث المنظم فی استكناه الصوت اللغوی، و أسهموا إسهاما حقیقیا فی إرساء ركائزه الأولی، مما أتاح لهم فرصة الاستقرار المبكر لحقیقة الأصوات اللغویة، و سهل علیهم خوض الموضوع بكل تفصیلاته المضنیة، و ترویض جماع تعقیداته المتشعبة، مما سجل للعرب فی لغة القرآن أسبقیة الكشف العلمی، و التوصل إلی النتائج التی تواضعت علیها الیوم حركة الأصواتیین العالمیة بعد المرور بتجربة المعادلات الكاشفة، و الأجهزة الفیزولوجیة المتطورة التی أكدت صحة المعلومات الهائلة التی ابتكرها العرب فی هذا المیدان. و مصطلح علم الأصوات مصطلح عربی أصیل، لا شك فی هذا لدنیا، و علة ذلك: النص علی تسمیته صراحة دون إغماض، و استعمال مدلولاته فی الاصطلاح الصوتی بكل دقة عند العرب القدامی، یقول ابن جنی (ت: 392 ه-):
«و لكن هذا القبیل من هذا العلم، أعنی (علم الأصوات) و الحروف، له تعلق و مشاركة للموسیقی، لما فیه من صنعة الأصوات و النغم» «1».
فهو لا ینص علیه فحسب حتی یربطه بالإیقاع الموسیقی و النغم الصوتی، و كلاهما منه علی وجه، و لا أحسب أن هذه التسمیة الصریحة بهذه الدلالة الاصطلاحیة الناصعة قد سبق إلیها ابن جنی من ذی قبل، فهو مبتدعها و هو مؤسس مصطلحها المسمی: (Phonemics(.
إن نظرة فاحصة فی كتابه الجلیل «سر صناعة الأعراب» تؤكد بكل جلاء كونه مخططا حقیقیا لعلم الأصوات متكامل العدة و الأسباب، من خلال المفردات الصوتیة الفذة التی بحثها و صنف القول فیها، مبتدئا بتعداد حروف المعجم و ضبط أصولها صوتیا، و إیغاله فی وصف مخارج الحروف وصفا دقیقا، و تقسیمه الأصوات إلی الأقسام التی لم یزد علیها علم
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 10.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 17
الصوت الحدیث جزءا ذا بال، و خوصه لما یعرض علی الحروف من حذف و ترخیم و إعلال و إبدال و إدغام و إشمام، یضاف إلی هذا رهافة صوتیة متأنقة، و ذهنیة لغویة و قادة، تمازج بین اللغة و الصوت فتخالهما كیانا واحدا متماسكا یشد بعضه بعضا، و مقارنة هذه المناحی و ملاحظتها، تجده یبتكر مصطلح (علم الأصوات) و یضعه موضع البحث الموضوعی الهادف، لهذا فإن ما تواضع علیه ابن جنی من مصطلح علم الأصوات، یمكن أن یكون الأصل الاصطلاحی الأول لما استقر علیه المصطلح الأوروبی (الفونولوجی-Phonology (: التشكیل الأصواتی، و هو یعنی كل العنایة بأثر الصوت اللغوی فی تركیب الكلام نحویا و صرفیا فی ضوء الصوت و الإیقاع لدی بحثه المصطلح، و الذی تطور فیما بعد للكشف عن الأصوات الإنسانیة العالمیة المجهولة، و وضع لذلك مصطلحه الحدیث (الفوناتكس-Phonetics (.

تقسیم الصوت بین العرب و الأوروبیین:

لقد اتسم العرب بدقة الملاحظة، و سلامة الحس الفطری، فی تذوق الأصوات، فقسموا الحروف إلی طائفتین صوتیتین:
الأصوات الصائتة، و الأصوات الصامتة. فحروف العلة فی المعجم العربی و هی: الیاء و الواو و الألف من الصوائت، و بقیة حروف المعجم من الصوامت، و قد أدركوا جمیع الملامح التی میزت بین هذه الأصوات، فانقسمت عندهم إلی مجهورة و مهموسة تارة، و إلی رخوة و شدیدة تارة أخری، و إلی أنسانیة و لثویة مرة، و إلی حنكیة و لهویة مرة، و من ثم تجد الإشارات الصوتیة فی كل ملحظ من ملاحظ الأصوات المترامیة لدی التقسیم.
یقول الأستاذ (كاردنر-W .H .T .Cairdener ( لقد سبق العلماء العرب الأصواتیین المحدثین فی تصنیف الأصوات حیث أشاروا إلی الأصوات الأسنانیة و الحنكیة و اللهویة و اللثویة من الصوامت، و قدموا ملاحظاتهم المضبوطة عن المواقع الدقیقة للّسان و الحنك متمثلة بأصوات متعددة ... و سلموا بصحة اندراجها تحت فصیلتین هما المجهورة و المهموسة، و للعرب معرفة كبیرة بالتقسیم الثانی الأساسی للأصوات الصحیحة، حیث یسمّون القسم الأول حروف الشدة، و یقصدون به
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 18
الأصوات الصحیحة المشددة أو المتوترة. أما القسم الثانی فیسمونه حروف الرخاوة، و یقصدون به الأصوات المترخیة» «1».
و كان من نتائج مسیرة التطور للبحث الصوتی عند الأوروبیین أن قسموا الأصوات اللغویة إلی قسمین رئیسیین:
الأول: كونسونانتس-.Consonants
الثانی: فویلز-.Vowels
و یمكن تسمیة القسم الأول بالأصوات الساكنة، و تسمیة الثانی بأصوات اللین، أو هی: الأصوات الصامتة و الأصوات الصائتة «2». و هذا ما أشار إلیه علماء الصوت العرب منذ عهد مبكر لدی اعتبارهم الفتحة و الكسرة و الضمة، و ألف المدّ، و یاء المد، و واو المدّ: أصوات لین، و ما سواها أصواتا ساكنة.
و مع أن الاهتمام العربی المبكر كان منصبّا علی الأصوات الساكنة و هی الصامتة، و قد عبر عنها العلماء برموز كتابیة معینة إلا أنهم أشاروا إلی الأصوات اللینة و هی الصائتة، و اعتبروها أبعاض تلك الحروف.
و قد كان ابن جنی (ت: 392 ه) سبّاقا إلی هذا الملحظ بقوله:
«اعلم أن الحركات أبعاض حروف المد و اللین و هی: الألف و الواو و الیاء، فكما أن هذه الحروف ثلاثة فكذلك الحركات ثلاث و هی: الفتحة و الكسرة و الضمة.
فالفتحة بعض الألف، و الكسرة بعض الیاء، و الضمة بعض الواو، و قد كان متقدموا النحویین یسمون الفتحة: الألف الصغیرة، و الكسرة: الیاء الصغیرة، و الضمة: الواو الصغیرة، و قد كانوا فی ذلك علی طریق مستقیمة» «3».
و الدلیل علی صحة رأی ابن جنی أن الحركات إذا أشبعتها أصبحت حروفا، فحركة الفتحة إذا أشبعتها و مددتها أصبحت ألفا، و حركة الكسرة
______________________________
(1). 16- 13.P /ThePhonet icsofArbic /Cairdener باختصار و تصرف.
(2) ظ: إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 26.
(3) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 19.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 19
إذا أشبعتها و مددتها أصبحت یاء، و حركة الضمة إذا أشبعتها و مددتها أصبحت واوا.
فكأن ابن جنی یشیر بذلك إلی التفاوت فی كمیة النطق و نوعیته، فما یسمی بالألف عبارة عن فتحة ممدودة، و ما یسمی بالیاء عبارة عن كسرة ممدودة، و ما یسمی بالواو عبارة عن ضمة ممدودة، و العكس بالعكس.
و قد أفاد من هذا الملحظ الدقیق علماء التلاوة و الأداء القرآنی، فنظموا قواعدهم تنظیما اقتطعوه من علم الأصوات فی هذا المجال فی كل من المد و الإشمام، و الإبدال و الإعلال، و الترخیم و الإدغام فكان «علم التجوید».
أما الصوامت من الأصوات عند علماء العربیة، فقد وفق د. عبد الصبور شاهین إلی استقرائها بعامة، فأعطی لكل صامت خصائصه فی العربیة من حیث المخرج و الصفة، و ذلك من خلال متابعة جیدة للمناخ الأصواتی العالمی، واضعا نصب عینیه برمجة العلماء العرب للأصوات، فصنع جدولا فنیا وزع فیه الصوامت العربیة علی مخارجها و صفاتها، مقارنا ذلك بالقیم الأصواتیة المماثلة فی اللغات الأوروبیة الحیة، بحیث أعطی كل صوت من الصوامت ممیزاته الدقیقة بالشكل الفنی المقبول، أنموذج ذلك الأمثلة الثلاثة التالیة من تخطیطه المقارن، و التی اخترناها للتنظیر علی صحة ما توصل إلیه العرب فی صفات الأصوات من مخارج مختلفة، قد تعطی كشفا لملامح الأصوات.
هذه الأصوات الثلاثة هی: الباء اللام، الشین، یقول عنها:
1- الباء: صامت شفوی مزدوج- انفجاری (شدید)- مجهور- مرقق. و هو یقابل فی اللغات الأوروبیة رمز (B( و لیس فی العربیة صامت یقابل الرمز (B( و هو یختلف فی قیمته الأصواتیة عن باء العربیة بالهمس فقط، مع اتفاق الصوتین فی القیم الأخری.
2- اللام: صامت أسنانی لثوی- مائع (متوسط)- مجهور- جانبی- مرقق دائما، إلا فی لفظ الجلالة، فإنه یفخم إذا كان الانتقال إلیه من فتح أو ضم، فأما إذا كان الانتقال من كسر فإنه یرقق علی أصله.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 20
3- الشین: صامت غاری ملثی- احتكاكی (رخو) مهموس- مرقق- یوصف بالتفشی، و معناه أن مخرجه یحتل مساحة كبیرة من منطقة الغار و اللثة، یتصل بها اللسان، فیكون أثر الاحتكاك فی النطق صادرا من نقاط متعددة، متفشیة فی الفم «1».
و ینقسم الصوت عند الأوروبیین من خلال علاقته المتماسة بالوترین الصوتیین إلی:
أ- مجهور-Voiced و هو الذی یحرك هذین الوترین.
ب- مهموس-Voiceless و هو الذی لا یحركهما.
و هذا نفسه ما ذهب إلیه سیبویه (ت: 180 ه) فی الكتاب، و ابن جنی (ت: 392 ه-) فی سر صناعة الإعراب كما سیأتی.
و لا أصل لما قیل إن العلماء العرب قد جهلوا شأن ذبذبة الوترین الصوتیین، فسیبویه یشیر إلیهما بدلالة كلامه علیهما و إن لم یصرح بهما.
فقد أورد أبو سعید السیرافی (ت: 368 ه-) فی شرحه لكتاب سیبویه، أنه قال:
«المهموس إذا أخفیته ثم كررته أمكنك ذلك، و أما المجهور فلا یمكنك فیه. ثم كرر سیبویه التاء بلسانه و أخفی، فقال: أ لا تری كیف یمكن؟ و كرر الطاء و الدال و هما من مخرج التاء فلم یمكن.
قال: و إنما الفرق بین المجهور و المهموس أنك لا تصل إلی تبین المجهور إلا أن تدخله الصوت الذی یخرج من الصدر. فالمجهورة كلها هكذا یخرج صوتهن من الصدر و یجری فی الحلق، أما المهموسة فتخرج أصواتها من مخارجها ... و الدلیل علی ذلك أنك إذا أخفیت همست بهذه الحروف، و لا تصل إلی ذلك فی المجهور» «2».
و هذه الإفاضة من سیبویه تتضمن فی جملتها خلاصة قیّمة للتفریق بین المهموس و المجهور فی مجال إخفاء الصوت. و إخفاء الصوت إنما یتحقق
______________________________
(1) ظ: عبد الصبور شاهین، علم الأصوات لمالمبرج: الدراسة 122- 126.
(2) خلیل إبراهیم العطیة، فی البحث الصوتی عند العرب: 42 و ما بعدها، و انظر مصدره.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 21
فی المهموسات فلا تتغیر، و هو لا یتحقق فی المجهورات، و یستعاض فی تمییزها علی ما یسمیه بصوت الصدر. «و لعل هذا الصوت هو صدی الذبذبات التی تحدث فی الوترین الصوتیین بالحنجرة» «1».
و تشبیه ابن جنی لجهاز النطق بالنای فی انفتاحه و انطباقه تارة، و بوتر العود فی تشكیله الأصداء المختلفة و الأصوات المتنوعة «إلا أن الصوت الذی یؤدیه الوتر غفلا غیر محصور ... فالوتر فی هذا التمثیل كالحلق، و الخفقة بالمضراب علیه كأول الصوت من أقصی الحلق، و جریان الصوت فیه غفلا غیر محصور كجریان الصوت فی الألف الساكنة» «2».
یمكن أن یفید الباحث منه إشارته للوترین الصوتیین فی حالة الصوت المجهور الذی یحركهما عند الانفتاح، و حالة الصوت المهموس الذی لا یحركهما عند الانطباق، هذا فی تشبیه جهاز النطق بالمزمار. و فی تشكیل مجموعة الأصداء المتفاوتة عند ضرب أو حصر آخر الوتر من قبل ضارب العود.
هذا و ذاك مما یدلنا علی معرفة علماء العربیة بالوترین الصوتیین و لو علی وجه الإجمال فی الإدراك.
و ثم تقسیم هائل للأصوات باعتبار مخارجها، و قد امتاز بابتكاره الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت: 175 ه-) و هو فی نظرنا من أدق مبتكراته، لأنه انطلق مع الأصوات من مخارجها، و حقق القول فی مساحاتها، و وضع كل صوت موضعه فی تتبع فرید لم یستطع العلم الحدیث أن یتخطاه بكل أجهزته المتخصصة و الأهم من هذا أن الأدمغة المبدعة فی أوروبا لم تستطع الخروج علی مسمیات الخلیل الصوتیة، و لم تخالفه إلا فیما یتعلق بتقعید بعض المصطلحات دون تغییر حقائقها بما یتناسب مع اللغة التی انتظمت علیها، و مع ذلك فهی الأصل الأول لمصطلحات أقسام الأصوات التی سبق إلیها الخلیل فی تطبیق التسمیات منطلقة من مسمیاتها التی تحدث تلك الأصوات.
______________________________
(1) إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 123.
(2) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 9- 10.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 22
یمكن القول بأن تقسیم الأصوات عند الخلیل بالإضافة إلی مخارجها، تشتمل علی مخطط تفصیلی لعملیة إخراج الأصوات و إحداثها، فی شتی تقلباتها المكانیة بدءا من الرئتین فی تدفق الهواء و انتهاء بالشفتین عند المیم، تضاف إلیها الممیزات الأخری و الخصائص المتعلقة بالأصوات و فضائها، و فی المستطاع تصنیف مناطق انطلاق الأصوات كما خططه الخلیل علی النحو الآتی:
1- الذلق: تخرج من ذلق اللسان، و هو تحدید طرفی اللسان أو طرف غار الفم، و هی: (ر. ل. ن).
2- الشفویة: تخرج من بین الشفتین خاصة (ف. ب. م).
3- الحلق: مبدؤها من الحلق (ع. ح. ه-. خ. غ).
4- أقصی الحلق: الهمزة و حدها، و مخرجها من أقصی الحلق مهتوتة مضغوطة.
5- الجوف: مخرجها من الجوف هاویة فی الهواء و هی: (الیاء و الواو و الألف و الهمزة).
6- حروف اللین: مخرجها من الرئتین (ی. و. ا).
7- اللهویة: مبدؤها من اللهاء (ق. ك).
8- الشجریة: مبدؤها من شجر الفم، أی: مخرج الفم (ج. ش.
ض).
9- الأسلیة: مبدؤها من أسلة اللسان، و هی مستدق طرف اللسان (ص. س. ز).
10- النطعیة: مبدؤها من نطع الغار الأعلی (ط. ت. د).
11- اللثویة: مبدؤها من اللثة (ظ. ذ. ث).
و یضیف إلی هذه الأقسام نوعین من الأصوات هما:
أ- الصحاح و هی خمسة و عشرون حرفا عدا الجوف.
ب- الهوائیة و هی الیاء و الواو و الألف و الهمزة لأنها لا یتعلق بها
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 23
شی‌ء «1». إن هذا النحو المستفیض لطبیعة تقسیم الأصوات، و تبویب ذلك فی مجالات متعددة، تتلمس حقیقة الصوت مرة كما فی الصوائت و الصوامت، و تنظر علاقة الصوت بوتری الصوت مرة كما فی المجهور و المهموس، و تراعی مخارج الأصوات بالنسبة لأجهزة النطق أو التصویب بعامة، إن هو إلا أصالة صوتیة لا تدانیها أصالة بالنسبة لبیئة انطلاق هذه المعلومات معتمدة علی النظر و الحس و التمحیص الشخصی، دون الاستعانة بأی رعیل من الأجهزة أو المختبرات.
نتیجة هذا الجهد الشخصی لعلماء العربیة، و صفت لنا شخصیة كل صوت باستقلالیة تامة، و ذلك كل ما توصل إلیه الأوروبیون بعد جهد و عناء و مثابرة جماعیة لا فردیة.
یقول إبراهیم أنیس «و لقد كان للقدماء من علماء العربیة بحوث فی الأصوات اللغویة شهد المحدثون الأوروبیون أنها جلیلة القدر بالنسبة إلی عصورهم، و قد أرادوا بها خدمة اللغة العربیة و النطق العربی، و لا سیما فی الترتیل القرآنی، و لقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربیة، و اتصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفی الحس، دقیقی الملاحظة، فوصفوا لنا الصوت العربی وصفا آثار دهشة المستشرقین و إعجابهم» «2».
و كان الوصف ما رأیت فی الأقسام السالفة.

تطور الصوت اللغوی:

تنتاب اللغات الحیة تطورات أصواتیة، تنشأ عنها تغیرات أساسیة فی اللغات، فیخیم عن ذلك تغییر ملحوظ بطبیعة الصیغ الكلامیة، و یحدث تطویر فی الوحدات التركیبیة، و أهم من ذلك ما ینشأ من تغییر فی الأصوات، یمكن حصره باختصار كبیر فی عاملین أساسیین هما: التحول التأریخی و التحول التركیبی.
التحوّل التاریخی عبارة عن تغییر و تحویر فی القواعد و الأصول لنظام
______________________________
(1) قارن فی هذا عند الخلیل، العین: 51- 60.
(2) إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 5.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 24
الأصوات فی اللغة، نابع عن تحولات المجتمعات البشریة من ساذجة إلی متطورة، أو من بدائیة إلی متحضرة، و ما یرافق هذا التحول من تحول بالعلاقات الاجتماعیة، و المناخ القومی العام، مما ینطبع أثره علی الظواهر الاجتماعیة و أبرزها اللغة لأنها أكبر ظواهره التفاهمیة و التخاطبیة، فتتحول تدریجیا إلی لغة متطورة فی كثیر من أبعادها المرتبطة بتطور مجتمعها، إذ لا یمكن أن ینفصل التفكیر فی تحول مسار لغة ما عن التفكیر فی تحوّل مسار متكلمی تلك اللغة، فاللغة فی تطورها جزء لا یتجزأ من المحیط فی تطوره، و لیس بالضرورة التطور إلی الأفضل بل قد تتطور اللغة إلی شی‌ء آخر یعود بها التدهور و الانحطاط، تفقد فیه جملة من خصائصها الفنیة أو الصوتیة أو الجمالیة، و تنسلخ فجأة عن ملامحها الذاتیة و تستبدلها بما هو أدنی قیمة لغویة.
و قد تزدهر ازدهارا یفوق حد التصور إذا كانت بسبیل من حمایة أصالتها كما هی الحال فی اللغة العربیة إذ یحرسها القرآن العظیم.
التحول التاریخی هذا لا یعنینا الاهتمام بأمره كثیرا فی ظاهرة الصوت اللغوی، و إنما تعنی هذه الدراسة بالشق الآخر من التحول و هو التحول التركیبی الذی ینشأ عادة نتیجة لظواهر تغییر أصوات اللغة الواحدة، و استبدال صوت منها بصوت آنیا أو دائمیا، فما استجاب للإبدال الصوتی الموقت یطلق علیه مصطلح المماثلة، و ما استجاب للإبدال الصوتی الدائم یطلق علیه مصطلح المخالفة. هذا ما یبدو لی فی التحول التركیبی، و هذه علة هذین المصطلحین، و قد یوافق هذا الفهم قوما، و قد لا یرتضیه قوم آخرون، و لكنه ما توصلت إلیه فی ظاهرتی المماثلة و المخالفة فی التراث العربی و اللغة منه بخاصة.
أ- المماثلة:Assimilation ، ظاهرة أصواتیة تنجم عن مقاربة صوت لصوت، فكلما اقترب صوت من صوت آخر، اقتراب كیفیة أو مخرج، حدثت مماثلة، سواء ماثل أحدهما الآخر أو لم یماثله.
و المماثلة أنواع أبرزها:
1- المماثلة الرجعیة، و معناها: أن یماثل صوت صوتا آخر یسبقه.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 25
2- المماثلة التقدمیة، و معناها: أن یماثل الصوت الأول الصوت الثانی.
3- المماثلة المزدوجة، و معناها: أن یماثل صوت الصوتین اللذین یحوطانه «1».
و المماثلة فی أنواعها متناسقة الدلالة فی اللغة العربیة فی حالات الجهر و الهمس، و الشدة و الرخاوة، و الانطباق و الانفتاح، مما یتوافر أمثاله فی مجال الصوت، و تنقل مجراه.
إن انتقال حالة الجهر فی الصوت العربی إلی الهمس فی المماثلة الرجعیة شائع الاستعمال فی أزمان موقوتة لا تتعداها أحیانا إلی صنعة الملازمة و الدوام، و إنما تتبع حالة المتكلم عند الممازجة بین الأصوات أو فی حالة الإسراع، و هناك العدید من الكلمات العربیة قد أخضعت لقانون المماثلة الرجعیة، و هی أوضح فیما اختاره عبد الصبور شاهین، فالكلمة (أخذت) مثلا مما نظر له عنها، (أخذت) حینما تنطق آنیا (أخت) فقد آثرت التاء فی (أخذت) و هی مهموسة، فی الذال قبلها و هی مجهورة، فأفقدتها جهرها، و صارت مهموسة مثلها، و تحولت إلی تاء ثم أدغم الصوتان.
أما عن المماثلة التقدمیة، فإن فی العربیة بابا تقع فیه هذه المماثلة بصورة قیاسیة، فی صیغة «افتعل- افتعالا» حیث یؤثر الصامت الأول فی الثانی، قال تعالی: وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِیلِهِ فَأَرْسِلُونِ «2».
الفعل: هو ذكر، و صیغة (افتعل- افتعالا) منه (اذتكر- اذتكارا) إذ تزاد الألف فی الأول، و التاء تتوسط بین فاء الفعل و عینه، فیكون الفعل (إذ تكر) و الذال مجهورة، و التاء مهموسة، فتأثرت التاء بجهر الذال، فعادت مجهورة، و التاء إذا جهر بها عادت دالا، فتكون: (إذ دكر) و الدال تؤثر فی الذال بشدتها، فتتحول الذال من صامت رخو إلی صامت شدید (دال) ثم تدغم الدالان، فتكون «ادكر» «3».
______________________________
(1) ظ: مالمبرج، علم الأصوات: 141 بتصرف و اختصار.
(2) یوسف: 45.
(3) ظ: عبد الصبور شاهین، علم الأصوات الدراسة: 145 بإضافة و تصرف.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 26
ب- و أما المخالفة:Dissimilation فتطلق عادة علی أی تغییر أصواتی یهدف إلی تأكید الاختلاف بین وحدتین أصواتیتین، إذا كانت الوحدات الأصواتیة موضوع الخلاف متباعدة «1» أو تؤدی إلی زیادة مدی الخلاف بین الصوتین «2».
و قد وهم الدكتور إبراهیم أنیس رحمه اللّه بعدّه علماء العربیة القدامی لم یفطنوا لظاهرة المخالفة فی الأصوات و لم یعنوا بها عنایة بالغة «3».
بینما یدل الاستقراء المنهجی لعلم الأصوات عند العرب أن قوانین علم الصوت العربی لم تفتها ظاهرة المخالفة بل تابعتها بحدود متناثرة فی كتب اللغة و النحو و التصریف، و هو ما فعله علماء العربیة فی التنظیر للمخالفة تارة، و بدراستها تارة أخری، منذ عهد الخلیل بن أحمد (ت:
175 ه) حتی ابن هشام الأنصاری (ت: 761 ه).
یقول الدكتور عبد الصبور شاهین «عرفت العربیة ظاهرة المخالفة فی كلمات مثل: تظنن، حیث توالت ثلاث نونات، فلما استثقل الناطق ذلك تخلص من أحدها بقلبها صوت علة فصارت: تظنی ... و لها أمثلة فی الفصحی مثل: نفث المخ: أنفثته نفثا، لغة فی نقوته، إذا استخرجته، كأنهم أبدلوا الواو تاء» «4».
و هذا ما ذهب إلیه الأستاذ فندریس فی ظاهرة المخالفة صوتیا، و كأنه یترجم تطبیق العرب بأن «یعمل المتكلم حركة نطقیة مرة واحدة، و كان من حقها أن تعمل مرتین» «5». فإذا تركنا هاتین الظاهرتین إلی مصطلحین صوتیین آخرین یعنیان بمسایرة تطور الصوت فی المقطع أو عند المتكلم، و هما: النبر و التنغیم، لم نجد العرب فی معزل عن تصورهما تصورا أولیا إن لم یكن تكاملیا، و إن لم نجد التسمیة الاصطلاحیة، و لكننا قد نجد مادتها التطبیقیة فی شذرات ثمنیة.
______________________________
(1) ظ: مالمبرج، علم الأصوات: 148.
(2) ظ: تمام حسان، مناهج البحث فی اللغة: 134.
(3) ظ: إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 211.
(4) عبد الصبور شاهین، علم الأصوات الدراسة: 150.
(5) فندریس، اللغة: 94.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 27
النبر یعنی عادة بمتابعة العلو فی بعض الكلمات لأنه لا یسم وحدة أصواتیة واحدة، بل منظومة من الواحدات الأصواتیة «1».
و التنغیم- كما أفهمه- یعنی عادة بمتابعة صوت المتكلم فی التغیرات الطارئة علیه أصواتیا بما یلائم توقعات النفس الإنسانیة للتعبیر عن الحالات الشعوریة و اللاشعوریة.
و كان المستشرق الألمانی الدكتور براجشتراس قد وقف موقف المتحیر حینا، و المتسائل حینا آخر، من معرفة علماء العربیة بمصطلح النبر، فهو لم یعثر علی نص یستند علیه، و لا أثر یلتجئ إلیه فی إجابة العربیة عن هذا الأمر «2».
و الحق أن عدم الوجدان لا یدل علی عدم الوجود كما یقال، غیر أن القدماء من العرب لم یدرسوا النبر فی تأثیره فی اللغة، بل لأنه یعنی بضغط المتكلم علی الحرف، و بذلك ربطوه بالتنغیم أحیانا، و بالإیقاع الذی یهز النفس، و یستحوذ علی التفكیر، و قد اختار عبد الصبور شاهین مقطعا من خطبة تروی لأمیر المؤمنین الإمام علی بن أبی طالب علیه السلام أثبتها و عقب علیها،
قال الإمام علی فیما روی عنه: «من وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، و من قرنه فقد ثنّاه، و من ثنّاه فقد جزأه، و من جزّأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إلیه، و من أشار إلیه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من قال:
فیم؟ فقد ضمنه، و من قال: علام؟ فقد أخفی منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شی‌ء لا بمقارنة، و غیر كل شی‌ء لا بمزاولة».
و للقارئ أن یتخیل أداء هذه الجمل المتتابعة موقعة علی نحو یشد إلیها أسماع الناس، و یستأثر بإعجابهم» «3».
الحق أن اللحاظ المشترك بین النبر و التنغیم عند العرب القدامی یجب أن یكون موضع عنایة من الناحیة النظریة، مع فرض توافره تطبیقا
______________________________
(1) ظ: مالمبرج، علم الأصوات: 187.
(2) ظ: براجشتراسر، التطور النحوی: 46.
(3) عبد الصبور شاهین، علم الأصوات الدراسة. 200.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 28
قرآنیا فی سورة متعددة، و خطابیا عند النبی صلی اللّه علیه و آله و سلّم و الأئمة و الصحابة و فصحاء العرب فی جملة من الخطب.
اتضح لزمیلنا الدكتور خلیل العطیة أن ابن جنی (ت: 392 ه) فی عبارته (التطویح و التطریح و التفخیم و التعظیم) «1» یمكن أن یشار عنده بها إلی مصطلحی النبر و التنغیم، بما تتفتّق معانی ألفاظ العبارة من دلالات لغویة فقال:
«و تشیر ألفاظ التطویح و التطریح و التفخیم من خلال معانیها اللغویة إلی رفع الصوت و انخفاضه و الذهاب به كل مذهب، و هی علی هذا إشارة إلی النبر، و لیس النبر غیر عملیة عضویة یقصد فیها ارتفاع الصوت المنبور و انخفاضه، كما أن تمطیط الكلام، و زوی الوجه و تقطیبه، مظهر من المظاهر التی تستند علیها ظاهرة التنغیم» «2».
فإذا نظرنا إلی تعریف التنغیم عند الأوروبیین بأنه «عبارة عن تتابع النغمات الموسیقیة أو الإیقاعات فی حدث كلامی معین» «3»، ثبت لدینا أن هذا التعریف الفضفاض لا یقف عند حدود فی التماس ظاهرة التنغیم و ضبطها، لأن تتابع النغمات و الإیقاعات بإضافتها إلی الحدث الكلامی تختلف فی هبوطها و صعودها نغما و إیقاعا، فهی غیر مستقرة المستویات حتی صنف مداها عند الدكتور تمام حسان إلی أربعة منحنیات: «مرتفع و عال و متوسط و منخفض» «4».
و معنی هذا أن لیس بالإمكان قیاس مسافة التنغیم لیوضع له رمز معین، أو إشارة معلمة عند العرب، لهذا فقد كان دقیقا ما توصل إلیه زمیلنا الدكتور طارق الجنابی باعتباره التنغیم «قرینة صوتیة لا رمز لها، أو یعسر أن تحدد لها رموز، و من ثم لم یكن موضع عنایة اللغویین القدامی، و لكنه وجد من المحدثین اهتماما خاصا بعد أن أضحت اللغات المحكیة
______________________________
(1) ابن جنی، الخصائص: 2/ 370.
(2) خلیل إبراهیم العطیة، فی البحث الصوتی عند العرب: 67 و ما بعدها.
(3) ماریوبای، أسس علم اللغة: 93.
(4) ظ: تمام حسان، اللغة العربیة معناها و مبناها: 229.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 29
موضع دراسة فی المختبرات الصوتیة» «1».
و فقدان موضع العنایة لا یدل علی فقدان الموضوع، فقد كان التنغیم مجال دراسة لجملة من فنون العربیة فی التراكیب و الأسالیب، فی تركیب الجملة لدی تعبیرها عن أكثر من حالة نفسیة، و أسلوب البیان لدی تعبیره عن المعنی الواحد بصور متعددة، و هذا و ذاك جزء مهم فی علمی المعانی و البیان نحوا و بلاغة، و هی معالم أشبعها العرب بحثا و تمحیصا، و إن لم یظهر علیها مصطلح التنغیم.
______________________________
(1) طارق عبد عون الجنابی، قضایا صوتیة فی النحو العربی: «بحث».
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 30

نظریة الصوت اللغوی‌

و لیس جدیدا القول بسبق العرب إلی تأصیل نظریة الصوت اللغوی، و اضطلاعهم بأعباء المصطلح الصوتی منذ القدم، لقد كان ما قدمناه فی «منهج البحث الصوتی عند العرب» و إن كان جزئی الإنارة، فإنه كاف- فی الأقل- للتدلیل علی أصالة هذا المنهج، و صحة متابعته الصوتیة فی أبعاد لا یختلف بها اثنان.
نضیف إلی ذلك ظاهرة صوتیة متمیزة فی أبحاث العرب لم تبحث فی مجال الصوت، و إنما بحثت فی تضاعیف التصریف، ذلك أن صلة الأصوات وثیقة فی الدرس الصّرفی عند العرب فی كل جزئیاته الصوتیة، فكان ما توصل إلیه العرب فی مضمار البحث الصرفی عبارة عن استجابة فعلیة لمفاهیم الأصوات قبل أن تتبلور دلالتها المعاصرة، فإذا أضفنا إلی ذلك المجموعة المتناثرة لعنایة البحث النحوی بمسائل الصوت خرجنا بحصیلة كبیرة متطورة تؤكد النظریة الصوتیة فی التطبیق مما یعد تعبیرا حیّا عن الآثار الصوتیة فی أمهات الممارسات العربیة فی مختلف الفنون.
«و لقد كان للقدماء من علماء العربیة بحوث فی الأصوات اللغویة شهد المحدثون الأوروبیون أنها جلیلة القدر بالنسبة إلی عصورهم، و قد أرادوا بها خدمة اللغة العربیة و النطق العربی، و لا سیما فی الترتیل القرآنی، و لقرب هؤلاء العلماء من عصور النهضة العربیة، و إیصالهم بفصحاء العرب كانوا مرهفی الحسّ، دقیقی الملاحظة، فوصفوا لنا الصوت العربی وصفا أثار دهشة المستشرقین و إعجابهم» «1».
______________________________
(1) إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 5.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 31
و هذه البحوث الصوتیة التی سبق إلیها علماء العربیة فأثارت دهشة المستشرقین، و أفاد منها الأوروبیون فی صوتیاتهم الدقیقة التی اعتمدت أجهزة التشریح، و قیاس الأصوات فی ضوء المكتشفات، قد أثبتت جملة من الحقائق الصوتیة، كان قد توصل إلیها الأوائل عفویا، فی حسّ صوتی تجربته الذائقة الفطریة، و بعد أن تأصلت لدیهم إلی درجة النضج، قدّمت منهجا رصینا رسخ فیه المحدثون حیثیات البحث الصوتی الجدید فی المفردات و العرض و الأسلوب و النتائج علی قواعد علمیة سلیمة.
لقد قدم العرب و المسلمون مفصّلا صوتیا مركّبا من مظاهر البحث الصوتی یمثل غایة فی الدقة و التعقید، لم یستند إلی أجهزة متطورة، بل ابتكرته عقول علمیة نیرة، و أذهان صافیة، تجردت للحقیقة، و تمحضت للبحث العلمی، مخلصة فیه النیة، و كانت الخطوط العریضة لهذا العطاء علی وجه الإجمال عبارة عن مفردات هائلة، و نظریات متراصة، یصلح أن یشكل كل عنوان منها فصلا من باب، أو بابا فی كتاب، یستقرئ به الباحث ما قدمه علماء العربیة من جهد صوتی متمیز و اكبه الغربیون بعد أن عبد طریقه العرب و المسلمون، هذه المفردات فی عنوانات ریادیة تمثل الموضوعات الآتیة فی نظریة الصوت:
1- ظاهرة حدوث الصوت.
2- معالم الجهاز الصوتی عند الإنسان.
3- أنواع الأصوات العالمیة.
4- درجات الأصوات فی الاهتزازات 5- بدایات الأصوات عند المخلوقات.
6- علاقة الأصوات باللغات الحیّة.
7- أعضاء النطق. و علاقتها بالأصوات.
8- الأصوات الصادرة دون أعضاء نطق.
9- علاقة السمع بالأصوات.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 32
10- مقاییس الأصوات امتدادا أو قصرا.
11- تسمیات الأصوات و أصنافها.
12- الأصوات الزائدة علی حروف المعاجیم.
13- الزمان و الصوت (مسافة الصوت).
14- المكان و الصوت (مساحة الصوت).
15- المقاطع الصوتیة بالإضافة إلی مخارج الأصوات.
16- النقاء الصوتی.
17- الموسیقی و الصوت.
18- العروض و الصوت.
19- النبر و الصوت.
20- التنغیم و الصوت.
21- التقریب بین الأصوات.
22- الرموز الكتابیة و الأصوات.
23- ائتلاف الحروف و علاقته بالأصوات.
هذه أهم مفردات المصطلح الصوتی فی نظریة الصوت اللغوی عند العرب توصلنا إلیها من خلال عروض القوم فی كتبهم، و طروحهم فی بحوثهم، و إن لم یشتمل علیها كتاب بعینه، و إنما جاءت استطرادا فی عشرات التصانیف، و نحن لا نرید حصرها بقدر ما نرید من التنبیه، أن هذه الموضوعات التی سبق إلیها العرب، هی التی توصل إلیها الأوروبیون الیوم، و منها استقوا معلوماتهم الأولویة، و لكنهم أضافوا و جددوا و أبدعوا، و تمرست عندهم المدارس الصوتیة الجدیدة، تدعمها أجهزة العلم، و الأموال الطائلة، و الخبرات الناشئة، مع الصبر علی البحث، و الأناة فی النتائج.
لقد كان ما قاله المرحوم الأستاذ مصطفی السقا و جماعته فی
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 33
مقدمتهم لسر صناعة الإعراب ملحظا جدیرا بالاهتمام ... «و الحق أن الدراسة الصوتیة قد اكتملت و سائلها و موضوعاتها و مناهجها عند الأوروبیین، و نحن جدیرون أن نقفوا آثارهم و ننتفع بتجاربهم، كما انتفعوا هم بتجارب الخلیل و سیبویه و ابن جنی و ابن سینا فی بدء دراساتهم للأصوات اللغویة» «1». فالأوروبیون أفادوا من خبراتنا الأصیلة. فهل نحن منتفعون؟
لقد توصل العرب حقا إلی نتائج صوتیة مذهلة أیدها الصوت الغوی الحدیث فی مستویات هائلة نتیجة لعمق المفردات الصوتیة التی خاض غمارها الرواد القدامی، و قد أید هذا التوصل اثنان من كبار العلماء الأوروبیین هما: المستشرق الألمانی الكبیر الدكتور براجشتراسر، و العالم الانكلیزی اللغوی المعروف الأستاذ فیرث.
أ- یقول الدكتور براجشتراسر فی معرض حدیثه عن علم الأصوات:
«لم یسبق الأوروبیین فی هذا العلم إلا قومان: العرب و الهنود» «2».
ب- و یقول الأستاذ فیرث:
«إن علم الأصوات قد نما و شب فی خدمة لغتین مقدستین هما:
السنسكریتیة و العربیة» «3» و العرب مقدمون علی الهنود فی النص الأول لأنهم أسبق:
و السنسكریتیة فی النص الثانی لغة بائدة آثاریة، و العربیة خالدة.
و- أقف عند رأیین فی نظریة الصوت اللغوی:
الأول: توصل الدكتور العطیة «أن بعض مباحث العرب فی البحث الصوتی داخلة فی (علم الصوت:Phonetics ( لاشتماله علی دراسة التكوین التشریحی لجهاز النطق و الصوت و مكوناته و عناصره و صفاته العامة و الخاصة علی مستوی المجموعة البشریة. كما أن بعض جوانب (علم الصوت
______________________________
(1)- مصطفی السقا و آخرون، سر صناعة الاعراب، مقدمة التحقیق: 19.
(2)- براجشتراسر، التطور النحوی: 57.
(3) ظ: أحمد مختار عمر، البحث اللغوی عند العرب: 101 و انظر مصدره.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 34
الوظیفی‌Phonology ( تبدو جلیة فی دراسة قوانین التأثر و التأثیر، و استكناه النبر و التنغیم، و طول الصوت و قصره، سواء أ كان طوله صفة دائمة أم آنیة عارضة» «1».
الثانی: إن الصوت قد فرض نفسه عند العرب فی دراسات قد لا تبدو علاقتها واضحة بالصوت، و قد وقف الدكتور الجنابی عند جملة «من مسائل النحو عرض لها النحویون و تأولوها، و اعتلوا لها بعلل لا تقنع باحثا، و لا ترضی متعلما، و لكن التفسیر الصوتی هو الذی یحل الإشكال و یزیل اللبس بمعزل عن القرائن أو العلاقات المعنویة بین المفردات، فلا صلة للتغییر الحركی بالفاعلیة و المفعولیة مثلا، و لا رابطة له بالأسالیب.
و إنما هو لون من الانسجام مع التغییر التلقائی الذی أشرت إلیه» «2».
هذان الرأیان نلمح بهما تمكن الدرس الصوتی عند العرب، فجملة مباحثهم صوتیا داخلة فی علوم الصوت، و ما لم یجدوا له تعلیلا فیحل إشكاله التفسیر الصوتی، و هذان ملحظان جدیران بالتأمل.
أما خلاصة تجارب الأوروبیین فی المصطلح الصوتی فقد كانت نتیجة حرفیة لمدالیل النظریة الصوتیة عند العرب فی نتائج ما توصل إلیه علماؤهم الأعلام.
هذه النظریة الصوتیة عند العرب عبارة عما توصل إلیه العرب من خلال تمرسهم و تجاربهم بنظریات نحویة و صرفیة و بیانیة و صوتیة و إیقاعیة و تشریحیة شكلت بمجموعها «نظریة الصوت» و هی فی تصور تخطیطی تشمل المنظور الآتی:
أ- النظریة العربیة فی الأبجدیة الصوتیة علی أساس المخارج و المدارج و المقاطع كما عند الخلیل و سیبویه و الفرّاء.
ب- النظریة العربیة فی أجهزة النطق و أعضائه، و تشبیهه بالنای تارة، و بالعود فی جس أو تارة تارة أخری كما عند ابن جنی.
______________________________
(1) خلیل إبراهیم العطیة، فی البحث الصوتی عند العرب: 108.
(2) طارق عبد عون الجنابی، قضایا صوتیة فی النحو العربی «بحث».
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 35
ج- النظریة العربیة فی التمییز بین الأصوات عن طریق إخفاء الصوت.
د- النظریة العربیة فی ربط الإعلال و الإبدال، و الترخیم و التنغیم، و المد و الإشمام بعملیة حدوث الأصوات و إحداثها.
ه- النظریة العربیة فی التلاؤم بین الحروف و أثره فی سلامة الأصوات، و التنافر فیها و أثره فی تنافر الأصوات.
و- النظریة العربیة فی أصول الأداء القرآنی، و عروض الشعر و الإیقاع الموسیقی، و علاقة ذلك بالأصوات.
ز- النظریة العربیة فی التوصل إلی معالجة التعقیدات النحویة، و المسوغات الصرفیة فی ضوء علم الأصوات.
هذا العرض الإشاری لنظریة الصوت اللغوی، یكفی عادة للتدلیل علی أصالة النظریة عند العرب، دون حاجة إلی استجداء المصطلحات الأجنبیة، أو استحسان الجنوح إلی الموارد الأوروبیة، فبحوث العرب فی هذا المجال متوافرة، و قد یقال إن التنظیم یعوزها، و أنها تفتقر إلی الترتیب الحدیث، و للاجابة عن هذه المغالظة نضع بین أیدی الباحثین المنصفین:
الفصل الثانی من هذا الكتاب بین یدی الموضوع، و الذی أطمح أن یكون مقنعا بأمانة و إخلاص فی إثبات تنظیم البحث الصوتی، و سلامة مسیرة الصوت اللغوی، و موضوعیة العرض دون تزید أو ابتسار فی علم الأصوات و عالمها.
و اللّه ولی التوفیق.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 37

الفصل الثانی منهجیة البحث الصوتی‌

اشارة

1- الخلیل بن أحمد و مدرسته الصوتیة 2- الصوت فی منهجیة سیبویه 3- الفكر الصوتی عند ابن جنّی 4- القرآن و الصوت اللغوی
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 39

الخلیل و مدرسته الصوتیة

ذهب أستاذنا الدكتور المخزومی: «أن الخلیل أول من التفت إلی صلة الدرس الصوتی بالدراسات اللغویة الصرفیة، الصرفیة و النحویة، و لذلك كان للدراسة الصوتیة من عنایته نصیب كبیر، فقد أعاد النظر فی ترتیب الأصوات القدیمة، الذی لم یكن مبنیا علی أساس منطقی، و لا علی أساس لغوی، فرتبها بحسب المخارج فی الفم، و كان ذلك فتحا جدیدا، لأنه كان منطلقا إلی معرفة خصائص الحروف و صفاتها» «1».
لم تكن هذه الأولیة اعتباطیة، و لا الحكم بها مفاجئا، فهما یصدران عن رأی رصین لأن الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت: 175 ه) هو أول من وضع الصوت اللغوی موضع تطبیق فنی فی دراسته اللغویة التی انتظمها كتابه الفرید (العین) بل هو أول من جعل الصوت اللغوی أساس اللغة المعجمی، فكان بذلك الرائد و المؤسس.
لا أرید التحدث عن أهمیة كتاب العین فی حیاة الدرس اللغوی و لكن أود الإشارة أن كتاب العین ذو شقین: الأول المقدمة، و الثانی الكتاب بمادته اللغویة و تصریفاته الإحصائیة المبتكرة التی اشتملت علی المهمل و المستعمل فی لغة العرب.
و الذی یعنینا فی مدرسة الخلیل الصوتیة مواكبة هذه المقدمة فی منهجیتها لتبویب الكتاب، و بیان طریقته فی الاستقراء، و إبداعه فی
______________________________
(1) المخزومی، فی النحو العربی، قواعد و تطبیق: 4
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 40
الاحصاء، و رأیه فی الاستنباط و مسلكیة التصنیف الجدید، و الأهم الذی نصبو إلیه «إن مقدمة العین علی إیجازها، أول مادة فی علم الأصوات دلت علی أصالة علم الخلیل، و أنه صاحب هذا العلم و رائده الأول» «1».
یبدأ الخلیل المقدمة بالصوت اللغوی عند السطر الأول بقوله: «هذا ما ألفه الخلیل بن أحمد البصری من حروف:
أ. ب. ت. ث ...» «2».
و أضاف أنه لم یمكنه «أن یبتدئ التألیف من أول: أ، ب، ت، ث،. و هو الألف، لأن الألف حرف معتل، فلما فاته الحرف الأول كره أن یبتدئ بالثانی- و هو الباء- إلا بعد حجة و استقصاء النظر، فدبّر و نظر إلی الحروف كلها، و ذاقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق، فصیّر أولاها بالابتداء أدخل حرف فی الحلق» «3».
و معنی هذا أن الخلیل قد أحاط بالترتیب (الألفبائی) من عهد مبكر، و لم یشأ أن یبتدئ به مع اهتدائه إلیه، لأن أول حرف فی هذا النظام حرف معتل، و لا معنی أن یبتدئ بما یلیه و هو الباء لأنه ترجیح بلا مرجح، و تقدیم دون أساس، فذاق الحروف تجریبیا، فرأی أولاها بالابتداء حروف الحلق، و ذاقها مرة أخری، فرأی (العین) أدخل حرف منها فی الحلق، بل فی أقصی الحلق.
قال ابن كیسان: (ت: 299 ه-) سمعت من یذكر عن الخلیل أنه قال: «لم أبدأ بالهمزة لأنها یلحقها النقص و التغییر و الحذف، و لا بالألف لأنها لا تكون فی ابتداء كلمة لا فی اسم و لا فعل إلا زائدة أو مبدلة، و لا بالهاء لأنها مهموسة خفیة لا صوت لها، فنزلت إلی الحیز الثانی و فیه العین و الحاء، فوجدت العین أنصع الحرفین فابتدأت به لیكون أحسن فی التألیف» «4».
______________________________
(1)- مقدمة التحقیق لكتاب العین: 1/ 10.
(2) الخلیل: كتاب العین: 1/ 47.
(3) نفس المصدر: 1/ 47.
(4) السیوطی: المزهر: 1/ 90.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 41
و إذا صح ما نقله ابن كیسان، و ستجد فی البحث ما یتعارض معه نوعا ما- فالخلیل یعتبر الهمزة و الألف فی الحیز الأول لاصوات حروف المعجم، و لكنه ینتقل إلی الحیز الثانی فیختار الصوت الأنصع بتذوقه للحرف من مخرجه الصوتی، و هو یوضح طریقته المبدعة بذاك، فیجرد من نفسه معنیا یتكلم عنه، فیقول: «و إنما كان ذواقه إیاها أنه كان یفتح فاه بالألف، ثم یظهر الحرف نحو: إب، ات، اع، اغ، فوجد العین أدخل الحروف فی الحلق فجعلها أول الكتاب، ثم ما قرب منها الأرفع فالأرفع حتی أتی آخرها و هو المیم» «1».
و معنی هذا أنه سار مع الحروف مسیرة مختبریة استقرائیة، ابتداء من أقصی الحلق، فالحلق، و مرورا بفضائه، فالاسنان، و انتهاء بالشفة فالمیم عندها، لأن المیم أرفع حروف الشفة.
و هذا یدل علی ذائقة حسیة فریدة، و صبر عنیف علی الاستنتاج، حتی توصل إلی ما توصل إلیه ابتداعا و ابتكارا، دون الاستعانة بأی جهاز علمی، إذ لا جهاز آنذاك، و هو ما لم یثبت العلم التشریحی الحدیث بكل أجهزته الدقیقة، و مختبراته الضخمة خلافا له فیما یبدو إلا یسیرا «2».
إن الخلیل فی ذائقته الصوتیة هذه، قد قلب حروف العربیة، فوضعها فی منازل معینة ضمن مخارج صوتیة معینة بحسب مدارج مقدرة من أقصی الحلق حتی إطباق الشفة فی المیم.
و اتضح أن الخلیل رحمه اللّه تعالی قد صنف هذه المخارج إلی عشرة أصناف كالآتی:
1- ع، ح، ه، خ، غ.
2- ق، ك.
3- ج، ش، ض.
______________________________
(1) الخلیل، كتاب العین: 1/ 47.
(2) ظ: المؤلف، منهج البحث الصوتی عند العربی: نقد و تحلیل: «بحث».
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 42
4- ص، س، ز.
5- ط، د، ت.
6- ظ، ث، ذ.
7- ز، ل، ن.
8- ف، ب، م.
9- و، ا، ی.
10- همزة «1».
و لم یكتف الخلیل بهذا التقسیم الفیزولوجی الدقیق بحسب تذوقه الخاص، بل نصّ علی تسمیة كل قسم من هذه الأقسام، و أفاد اللغات العالمیة جمعاء، بأصل من الأصول الأولی فی الاصطلاحات الصوتیة دون أن یسبقه إلی ذلك سابق، بل عوّل علیه فیه كل لاحق.
لقد حدد الخلیل كل صنف من أصناف الحروف المعجمیة علی بنیة صوتیة متمیزة، تحسها كیانا مستقلا، و تتذوقها قاعدة صلبة، و علل ذلك علی أساس صوتی متكامل، و وعی بأبعاد هذا الأساس، فكوّن بذلك نظاما فریدا غیر قابل للرد إذ جاء فیه بضرس قاطع لا یختلف به اثنان، و سیّر ذلك مسیرة نابضة بالحیاة لا یلحقها الهرم، و لا تعوزها النضارة، فهی غضة طریة فی كل حین، قال الخلیل:
«فالعین و الحاء و الغین و الخاء حلقیة، لان مبدأها من الحلق.
و القاف و الكاف لهویتان، لأن مبدأها من اللهاة.
و الجیم و الشین و الضاد شجریة، لأن مبدأها من شجرة الفم.
و الصاد و السین و الزاء أسلیة، لأن مبدأها من أسلة اللسان.
و الطاء و التاء و الدال نطعیة، لأن مبدأها من نطح الغار الأعلی.
______________________________
(1) الخلیل، كتاب العین: 1/ 48.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 43
و الظاء و الذال و الثاء لثویة، لأن مبدأها من اللثة.
و الراء و اللام و النون ذلقیة، لأن مبدأها من ذلق اللسان.
و الفاء و الباء و المیم شفویة، لأن مبدأها من الشفة.
و الیاء و الواو و الألف و الهمزة هوائیة فی حیز واحد، لأنها لا یتعلق بها شی‌ء «1».
إن هذه التسمیات التشخیصیة قد نهضت بكیان كل صوت و عادت به إلی نقطة انطلاقه، و اهتداء الخلیل إلیها بذهنه المتوهج فطنة و ذكاء، دون مثال یحتذیه عند من سبقه من علماء العربیة كنصر بن عاصم اللیثی و أبی عمرو بن العلاء لدلیل ناصع علی موسوعیة فذة، و عبقریة لا تقاس بالأشباه، كیف لا و بدایة إفاضاته الصوتیة مبكرة و مبتكرة.
ختم الخلیل هذه المقدمة بما بدأه من ملحظ صوتی لیس غیر: «بدأنا فی مؤلفنا هذا بالعین، و هو أقصی الحروف، و نضم إلیه ما بعده حتی نستوعب كلام العرب الواضح و الغریب، و بدأنا الأبنیة بالمضاعف لأنه أخف علی اللسان، و أقرب مأخذا للمتفهم» «2». و لمّا كانت هذه المتقدمة مشتملة علی الإفاضة الصوتیة الأولی عند العرب، فإننا نشیر إلی بعض ملامحها بإیجاز و تحدید:
1- لقد أدرك الخلیل بفطرته الصافیة، و حسه المتوقد، أهمیة الصوت اللغوی، فی الدراسات اللغویة المتخصصة، فأشار إلی أبعادها من ینابیعها الأولی، فوضع یده علی الأصول فی انطلاق الأصوات من مخارجها الدقیقة، و أفرغ جهده الدءوب فی التماس التسمیات للمسمیات فطبق بها المفصل، و تمكن من استنباط طائفة صالحة من الأسرار الصوتیة من هذا الخلال، لذلك فقد كان صحیحا ما توصل إلیه محققا العین أن فی المقدمة منه «بواكیر معلومات صوتیة لم یدركها العلم فیما خلا العربیة من اللغات إلا بعد قرون عدة من عصر الخلیل» «3».
______________________________
(1) الخلیل، كتاب العین: 1/ 58.
(2) المصدر نفسه: 1/ 60.
(3) ظ: مقدمة التحقیق لكتاب العین: 1/ 10.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 44
فقد استعمل الخلیل كلمة (حرف) للدلالة علی إرادة (صوت) منها، فكانت الأصوات عنده هی: الحروف الذلق/ الحروف الشفویة/ حروف الحلق/ حروف أقصی الحلق/ الحروف الصحاح/ الحروف الصم/ حروف الجوف/ حروف اللین/ حروف ما بین عكدة اللسان/ الحروف اللهویة/ الحروف الشجریة/ الحروف الأسلیة/ الحروف النّطعیة/ الحروف اللثویة ... إلخ «1» و هو یرید بذلك، أصوات الذلاقة، و أصوات الشفة، و أصوات الحلق، و أصوات أسلة اللسان. إلخ.
و لا یكتفی بهذا حتی یسمی هذه الأصوات بالإضافة إلی مخارجها و مدارجها، ناظرا إلی هیئة المخرج من المدرج، و ما یصطدم بها من أجهزة النطق أو یتجاوزها باندفاع الهواء، فیصفها فی مثل النحو الآتی:
فمنها ما یخرج من الجوف و لیس لها حیّز تنسب إلیه سواه، و منها ما یقع فی مدرجة من مدارج اللسان، و ما یقع فی مدرجة من مدارج الحلق، و ما یقع من مدرج اللهاة، و ما هی هوائیة، أی أنها فی الهواء كالألف اللینة و الواو و الیاء «1».
2- یبتدع الخلیل فی هذه المقدمة أمرا ذا أهمیة قصوی فی حیاة الأصوات، فیصنع- و بدقة متناهیة- مخططا شاملا لمخرج كل صوت، و یقارن بین بعض الأصوات، فیضعها فی حیز متمیز عن حیز الأصوات الأخری، و یعطی بعض الخصائص المفرقة لصوت عن صوت، و یعالج إلحاق بعض الأصوات ببعض المخارج دون سواها، فتقف عند العلة و السبب، و تستظهر العلة التی تخفی و لا تكاد تبین، یقول الخلیل فی هذا التخطیط:
«فأقصی الحروف كلها العین ثم الحاء، و لو لا بحة فی الحاء لأشبهت العین لقرب مخرجها من العین.
ثم الهاء، و لو لا هتة فی الهاء لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من
______________________________
(1) ظ: الخلیل، كتاب العین: 1/ 53- 57.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 45
الحاء، فهذه ثلاثة أحرف فی حیّز واحد بعضها أرفع من بعض، ثم الخاء و الغین فی حیّز واحد كلها حلقیة.
ثم القاف و الكاف لهویتان، و الكاف أرفع.
ثم الجیم و الشین و الضاد فی حیّز واحد.
ثم الصاد و السین و الزاء فی حیّز واحد.
ثم الطاء و الدال و التاء فی حیّز واحد.
ثم الظاء و الذال و الثاء فی حیّز واحد.
ثم الراء و اللام و النون فی حیز واحد.
ثم الفاء و الباء و المیم فی حیّز واحد.
ثم الألف و الواو و الیاء فی حیّز واحد.
و الهمزة فی الهواء لم یكن لها حیّز تنسب إلیه «1». و أقف عند الهمزة، فهی مختلف فیها، ففی الوقت الذی لا یوجد لها حیّز عند الخلیل، إلا فیما نسبه إلیه ابن كیسان فیما سبق، نجد سیبویه یبتدئ بها، و یعتبرها من حروف أقصی الحلق «2». فی حین یعتبرها ابن جنی أول الحروف مخرجا، و یبتدئ بها «3». بینما یعدّها الخلیل هوائیة منبعثة من الرئتین، و قد یوافقه ابن الجزری لأنه یعتبرها صوتا مرققا، سلس النطق، لا مبالغة فی تحقیقه «4».
و الحق أن الهمزة صوت مهموس غیر مجهور، و قد ذهب دانیال جونزD .Joenes فیما بین ذلك إلی أنه صوت لیس بالمجهور، و لا هو بالمهموس، و إنما هو حالة بین حالتین.
و ذهب هفنرR .M .Heffner إلی أنه صوت مهموس دائما، و یبدو أن لا تعارض بین الرأیین، فكلاهما قد نفی عن الهمزة صفة الجهر، و لكن كلا
______________________________
(1) ظ: كتاب العین: 1/ 57- 58.
(2) ظ: سیبویه، الكتاب: 2/ 405.
(3) ظ: ابن جنی، سر صناعة الأعراب: 1/ 50.
(4) ظ: ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر: 1/ 216.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 46
منهما أصدر حكمه بناء علی نظرة إلی الحنجرة تختلف عن نظر الآخر، فجونز قد اعتبر أن للحنجرة ثلاثة أوضاع: الاحتباس، الانفتاح دون ذبذبة، الانفتاح مع الذبذبة، و بذلك تكون الهمزة صوتا لا هو بالمجهور و لا بالمهموس.
أما هفنر فقد اعتبر أن للحنجرة وظیفتین هما: ذبذبة الأوتار الصوتیة، و هی صفة الجهر، و عدم ذبذبتها و هی صفة الهمس، و یدخل فی حالة عدم الذبذبة احتباس فی الحنجرة أو انطلاق فیها فی بقیة المهموسات، علی أن من المسلم به لدی كل منهما: أن الهمزة عبارة عن احتباس فی الحنجرة «1».
إن هذا العرض إنما تم لجونز و هفنر بعد تقدم العلم الفیزولوجی الذی أعانهما علی فهم جهاز الحنجرة بتفصیلات ذبذبته و عدمها، و مع هذا فقد اختلفا من وجه فی الهمزة، أما الخلیل فقد عینها حسیا بذاته دون الاستعانة بخبرة تشریحیة معقدة، و انبعاثها من الرئتین دون حیّز تنسب إلیه، لا یضیر معرفته الدقیقة بجهة انطلاقها و اصطدامها و خروجها من فضاء الفم، و إذا كان العلم الحدیث یمیل إلی رأی سیبویه فی الموضوع علی فرض أن الخلیل لم یعتبرها أول الأصوات، فسیبویه تلمیذ الخلیل و ابنه حملة علمه، فالعائدیة علی الخلیل فی كلتا الحالتین، و هذا ما یقرب ما نسبه ابن كیسان إلی الخلیل فی شأن الهمزة، فیبدو لنا أنه لم یبدا بها لأن العین أنصع منها لیس غیر.
3- فی هذه المقدمة: إشارات صوتیة، و إشارات لغویة، و قد یدخل الملحظ الصوتی ضمن الملحظ اللغوی كما فعل الخلیل هذا لدی حدیثه عن ألف الخماسی باعتبارها لیست أصلیة فقال:
«أدخلت هذه الألفات فی الأفعال و أمثالها من الكلام لتكون الألف عمادا و سلما للسان إلی حرف البناء، لأن اللسان لا ینطلق بالساكن من الحروف فیحتاج إلی ألف الوصل» «2».
______________________________
(1) ظ: عبد الصبور شاهین، أثر القراءات فی الأصوات: 167 و ما بعدها.
(2) الخلیل، العین: 1/ 49.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 47
لقد كان بامكان الخلیل التصریح بأن هذه الألف من حروف الزیادة، و لكنه لم یفعل، بل أراد و هو معیب بهذه الإرادة، أنها وسیلة لإخراج الصوت، فكأن أی صوت لا یمكن للمعرب أن ینطقه، و لا أن یأخذ الصوت مادته و صفته إلا بعد اعتماده علی صوت الألف الأولی قبله، و من أجل ذلك دعاها عمادا أو سلّما، كما أشار إلی أن إخراج الصوت، و هو ساكن بصفته: محتاج إلی وسیلة إخراجه، لأن اللسان لا ینطلق بالساكن من الحروف، و كانت هذه الوسیلة هی ألف الوصل «1».
و الخلیل یراعی هذا التمازج الصوتی فی اللغة فیحكم أن الاسم لا یكون أقل من ثلاثة أحرف. حرف یبتدأ به، و حرف یحشی به الكلمة، و حرف یوقف علیه، فهذه ثلاثة أحرف، فإن صیرت الثنائی مثل: قد، هل لو، اسما أدخلت علیه التشدید فقلت: هذه لوّ مكتوبة، و هذه قدّ حسنة الكتبة، زدت واوا علی واو، و دالا علی دال، ثم أدغمت و شدّدت.
فالتشدید علامة الإدغام، و الحرف الثّالث «2».
إن هذا الاهتمام السلیم فی ربط اللغة بالصوت، و اعتبار الصوت امتدادا للبنیة التركیبة، و أصلا للأفكار المنظورة فی اللغة، هو الذی توصل إلیه بعد قرون عدة الأستاذ اللغوی فردیناند دی سوسور فی أن اللغة فكرة منظمة مقرونة بالصوت من خلال تأمل عنصرین یشتركان فی تأدیة اللغة لوظیفتها، و هما: الأفكار و الأصوات من خلال الربط بینهما كما صنع الخلیل.
یقول دی سوسور: «إن المادة الصوتیة لیست أكثر ثبوتا، و لا أشد تحدیدا من الفكر: و هی لیست قالبا یصب فیه الفكر بالضرورة، بل هی مادة مرنة تنقسم فی كل حالة إلی أجزاء متمیزة لتوفر الدوال‌Significes التی یحتاج إلیها الفكر. و بذلك یمكن أن نتصور الحقیقة اللغویة فی مجملها علی أنها سلسلة من التقسیمات المتجاورة التی حددت علی مستویین: المستوی غیر المحدد للأفكار المكدسة، و مستوی الأصوات.
______________________________
(1) ظ: مقدمة التحقیق لكتاب العین: 1/ 11.
(2) ظ: الخلیل، العین: 1/ 49- 50.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 48
إن الدور الممیز للغة بالنسبة للفكر لیس وسیلة صوتیة مادیة للتعبیر عن الأفكار، بل القیام بوظیفة حلقة الوصل بین الفكر و الصوت، فی ظروف تؤدی بالضرورة إلی التمییز المتبادل لوحدات الفكر و الصوت» «1».
إن هذا المنحنی من التخطیط الصوتی هو الذی یرمی إلیه الخلیل فی مقدمة العین لیخلص إلی صلة التفاعل الحقیقی بین الأفكار و الأصوات، بل أنه یحصر ما فی كتاب العین من لغة و تصریف و اشتقاق بمنطق تذوقه لأصوات حروف المعجم «فإذا سئلت عن كلمة و أردت أن تعرف موضعها، فانظر إلی حروف الكلمة، فمهما وجدت منها واحدا فی الكتاب المقدم (یعنی مقدمة العین) فهو ذلك الكتاب» (یعنی كتاب العین) «2».
فهو یری فی اللغة امتدادا طبیعیا للأصوات أولا فیربطها بها ارتباط الأصل بالفرع، و نعنی بذلك ربط الأصوات أصلا، باللغة باعتبارها متفرعة عن الأصوات.
4- و لعل أهم ما توصل إلیه الخلیل فی علم الأصوات حصره للمعجم العربی بأبعاد صوتیة فضلا عن وصف الأصوات منفردة و مجتمعة و منضمّة إلی سواها. و إنی لیمتلكنی العجب حینما أجده یضع حدا جدیدا، و معیارا فنیا متوازنا، للكلمات العربیة باشتمالها علی الحروف الذلق و الشفویة، و للكلمات الأعجمیة التی لا تشتمل علی واحد من حروف الذلاقة و الشفة.
هذا المقیاس الفنی الصوتی لدی الخلیل لم یخطئ و لا مرة واحدة حتی فی كلمة واحدة، فیا له من مقیاس ما أكمله.
یقول الخلیل: «فإن وردت علیك كلمة رباعیة أو خماسیة معرّاة من حروف الذلق أو الشفویة، و لا یكون فی تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك، فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، لیست من كلام العرب، لأنك لست واجدا من یسمع من كلام العرب
______________________________
(1) دی سوسور: علم اللغة العام: 131 و ما بعدها.
(2) ظ: الخلیل، كتاب العین: 1/ 47.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 49
بكلمة واحدة رباعیة أو خماسیة إلّا و فیها من حروف الذلق أو الشفویة واحد أو اثنان أو أكثر» «1».
فهو هنا و بحس صوتی جامع مانع: یدرأ الدخیل و المعرّب و المولّد و المحدث و المبتدع عن لغة العرب، و تلك میزة ما بعدها میزة فی هذا الخضم المتلاطم من الكلمات و اللغی.
قال اللیث: قلت: فكیف تكون الكلمة المولدة المبتدعة غیر مشوبة بشی‌ء من هذه الحروف؟ فقال نحو:
(الكشعثج و الخضعثج و الكشعطج و أشباههن) فهذه مولدات لا تجوز فی كلام العرب، لأنه لیس فیهن شی‌ء من حروف الذلق و الشفویة فلا تقبلن منها شیئا، و إن أشبه لفظهم و تألیفهم، فإن النحاریر منهم ربما أدخلوا علی الناس ما لیس فی كلام العرب إرادة اللبس و التعنیت» «2».
و لیس جدیدا بعد العروض السابقة القول بأن الخلیل كان ضلیعا بكل تفصیلات الجهاز الصوتی عند الإنسان، و لا یضیره- إن صح ما یقال- أن لا یذكر الوترین الصوتیین، لأنه لیس عالما بالتشریح، و لا متخصصا بجراحة الحنجرة، و ما اضطلع بمهمة طبیة قط، و ما ذكره من أجزاء هذا الجهاز فیه الكفایة لعصره إن لم نقل للعصور كافة، لأنه قد تضمن بكثیر من الأبعاد الإشارة لهذه المباحث التی تفرغ لها الأوروبیون.
قال جملة من الأساتیذ:
«و من أحسن ما عرض له العرب فی دراسة الأصوات ما نجده عند الخلیل من وصف الجهاز الصوتی، و هو الحلق و الفم إلی الشفتین، و تقسیمه إیاه إلی مناطق و مدارج یختص كل منها بحرف أو مجموعة حروف، و ما أشار إلیه من ذوق الحروف لبیان حقیقة المخرج، فقد هدی بذكائه المتفوق فی ذلك إلی مقاییس صحیحة أقرّ كثیرا منها علماء الأصوات المحدثون» «3».
______________________________
(1) الخلیل، كتاب العین: 1/ 52.
(2) المصدر نفسه: 1/ 52 و ما بعدها
(3) مصطفی السقا و آخرون، مقدمة تحقیق سر صناعة الأعراب: 1/ 13.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 50
لقد اهتم علماء الأصوات المحدثون بوصف الجهاز الصوتی، و بیان وظیفته فی تفصیل دقیق استعانوا علی تحقیقه بعلم الصوت الفسملجی، فأعطوا ثمرات جیدة و مفیدة، و لكنها لا تختلف إلا قلیلا عن معطیات قدماء العرب، و لقد اقتصر العالم اللغوی دی سوسور (1857- 1913 م) أبرز لغوی أوروبی فی العصر الحدیث، اقتصر فی وصفه لجهاز الصوت علی تجویف الأنف، و تجویف الفم، و الحنجرة بما فی ذلك فتحة لسان المزمار الواقعة بین الوترین الصوتیین، و كانت المفردات التی أخضعها للدراسة عبارة عن الشفتین، و اللسان، و الأسنان العلیا، و الحنك، و اللهاة.
یقول دی سوسور: «إن فتحة لسان المزمار تتألف من عضلتین موازیتین، أو حبلین صوتیین، تفتح كلما ابتعدت العضلتان، بعضهما عن بعض، و تغلق عند ما تقتربان، و عند ما تتسع الفتحة تسمح بدخول الهواء بحریة كاملة فلا یحدث أی تذبذب فی الوترین الصوتیین. فی حین یحدث مثل هذا التذبذب (الصوت) عند ما تكون الفتحة ضیقة. و لیس لهذه العملیة فی إخراج الأصوات بدیل عادة.
إن التجویف الأنفی عضو غیر متحرك، و لا یمكن إیقاف تدفق الهواء فیه إلا برفع اللهاة. فهو عبارة عن باب مفتوح أحیانا.
أما تجویف الفم، فالاحتمالات التی یوفرها أكثر: إذ یمكن استخدام الشفتین لزیادة طول القناة (تجویف الفم) كما یمكن دفع الفكین إلی الخارج أو تقلیصهما نحو الداخل. و للشفتین و اللسان حركات كثیرة مختلفة یمكن استخدامها، و یتناسب دور هذه الأعضاء فی إخراج الأصوات تناسبا طردیا مع مرونة حركتها، فالحنجرة و التجویف الأنفی ثابتان، لهما وظیفة ثابتة ... و یستطیع المرء أن یخرج صوتا حنجریا بشد الوترین الصوتیین، و لكن الحنجرة لا تستطیع أن تخرج أصواتا متنوعة ... أما القناة الأنفیة فلیس لها من وظیفة فی النطق سوی إحداث رنین للذبذبات الصوتیة ...
و علی العكس من ذلك یسهم تجویف الفم فی إخراج الأصوات و إحداث الرنین.
و موجز القول: إن العناصر التی تسهم فی إخراج الأصوات هی:
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 51
الهواء إلی الخارج، و النطق فی الفم، و تذبذب فی منطقة الحنجرة، و الرنین الأنفی «1».
إذن: اندفاع الهواء من الرئتین+ النطق فی الفم+ التّصویت فی الحنجرة+ الرنین فی الأنف- إحداث الأصوات.
بهذا أعطی دی سوسور تفصیلا مكثفا لإحداث الأصوات و تولیدها من أجهزتها، و لكن هذا التفصیل لم یكن لیتأتی له لو لا تطور الدراسات الصوتیة فسلجیا و فیزیائیا و تشریحیا، أما الخلیل فقد اهتدی لذلك فطریا علی وجه العموم، و اكتشف و لأول مرة كل التفصیلات الصحیحة لجهاز النطق و إحداث الصوت بذهنیته الوقادة دون الاستعانة بأی علم یتسع لمثل إبداعاته الصوتیة فی بیئته البدویة.
و لم یكن فهم الخلیل لأبعاد إحداث الأصوات بمنأی عن الفهم عند دی سوسور، بل لقد زاد علیه- كما عرفت سابقا- فی كثیر من الخصوصیات الانطلاقیة لهذه الأجزاء- التی قد تعتبر أولیة فی مدرسته الصوتیة- تنم عن إدراك متكامل للموضوع، و تمرس عمیق فی قضایا صوتیة معقدة.
______________________________
(1) دی سوسور، علم اللغة العام: 60.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 52

الصوت فی منهجیة سیبویه‌

و لو تركنا الخلیل ذاته إلی من تأثر بمدرسته لوجدنا جهودا صوتیة متناثرة، تستند فی أغلبها إلی مبتكرات الخلیل، توافقه حینا، و تخالفه حینا آخر. فأعضاء النطق مثلا عند الخلیل و عند سیبویه (ت: 180 ه) واحدة، و الحروف فی مدارجها، و یعنی بها الأصوات تبعا للخلیل، تبدأ بأقصی الحلق، و تنتهی بالشفتین، فهی عند سیبویه كما هی عند الخلیل «1».
و لكن ترتیب الحروف فی كتاب سیبویه تخالف ترتیب الخلیل، فحینما وضع الخلیل الأبجدیة الصوتیة للمعجم العربی مبتكرا لها، خالفه سیبویه فی ترتیب تلك الأصوات، إذ بدأ بالهمزة و الألف و الهاء، و قدّم الغین علی الخاء، و أخر القاف عن الكاف و هكذا ...
یتضح هذا من ترتیبه للحروف علی هذا النحو:
همزة. ا. ه.
ع. ح. غ. خ.
ك. ق.
ض. ج. ش.
ی. ل. ر.
ن. ط. د. ت. ص.
______________________________
(1) ظ: سیبویه، الكتاب: 2/ 405.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 53
ز. س. ظ.
ذ. ث. ف.
ب. م. و «1».
و هذا و إن كان خلافا جوهریا فی ترتیب مخارج الأصوات، إلا أنه لا یعنی أكثر من العملیة الاجتهادیة فی الموضوع دون الخروج عن الأصل عند الخلیل. «كذلك نلاحظ اختلافا واحدا فی ترتیب المجموعات الصوتیة بالنظر إلی تقدمها و تأخرها، فقد جاءت حروف الصّغیر فی كتاب العین بعد الضاد، و هو حرف حافة اللسان، و الذی عند سیبویه بعد الضاد: حروف الذلاقة. و نتیجة لتقدیم حروف الصفیر، فقد وضع مكانها حروف الذلاقة، و معنی ذلك أنه فی العین حدث تبادل بین حروف الصفیر و حروف الزلاقة» «2».
إن الاختلاف من هذا القبیل لا یعدو وجهة النظر الصوتیة المختلفة، و لكنه لا یمانع أن تكون آراء سیبویه فی الكتاب امتدادا طبیعیا لمدرسة الخلیل، نعم لا ینكر أن لسیبویه ابتكاراته المقررة، فنحن لا نبخس حقه، و لا نجحد أهمیته فی منهجة البحث الصوتی، فقد كان له فضل بذلك لا ینكر، فتصنیفه لصفات الأصوات فی الجهر و الهمس و الشدة و الرخاوة و التوسط، و كشفه لملامح الإطباق و اللین، و تمییزه لمظاهر الاستطالة و المد و التفشی، كل أولئك مما یتوّج صوتیته بالأصالة.
و لسیبویه قدم سبق مشهود له فی قضایا الإدغام، و هی معالم صوتیة فی الصمیم، فقد قدم لها بدراسة علم الأصوات، كما قدم الخلیل معجمه بعلم الأصوات، فالخلیل قد ربط بین اللغة و الصوت، و سیبویه قد ربط بین قضایا الصوت نفسها، لأن الإدغام قضیة صوتیة «و نحن نقرر هنا مطمئنین أن سیبویه قد وضع قواعد هذا البحث و أحكامه لا لفترة معینة من الزمن،
______________________________
(1) المصدر السابق و الصفحة.
(2) حسام النعیمی، الدراسات اللهجیة و الصوتیة عند ابن جنّی: 229.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 54
بل یكاد یكون ذلك نهائیا، و كان تصرفه فیها تصرفا رائعا، صادرا عن عبقریة سبقت الزمن، فلم یكن ممن جاء بعده من العلماء و الباحثین إلا أن اتبعوا نهجه، و اكتفوا بما قال، و لم یزیدوا بعد سیبویه علی ما قال حرفا، بل أخذوا یرددون عباراته مع كتبهم، و یصرحون بأنهم إنما یتبعون مذهبه، سواء فی ذلك علماء النحو و علماء القراءة» «1».
و قد یكون فی هذا الحكم مبالغة، و لكنه مقارب للحقیقة فی كثیر من أبعاده، إذ كان سبّاقا إلی الموضوع بحق.
و مما یجلب الانتباه حقا عند سیبویه فی صفات الحروف و مخارجها، هو تمییزه الدقیق بین صفة الجهر و صفة الهمس فیما أشرنا له فی الفصل السابق فمصدر الصوت المجهور یشترك فیه الصدر و الفم، و مصدر الصوت المهموس من الفم وحده، و بمعنی آخر أن للرئتین عملا ما فی صفة الجهر، بینما ینفرد الفم بصفة الهمس «2».
فتعریف المجهور عنده: «حرف أشبع الاعتماد فی موضعه، و منع النفس أن یجری معه حتی ینقضی الاعتماد علیه، و یجری الصوت. بینما المهموس: حرف أضعف الاعتماد فی موضعه حتی جری النفس معه» «3».
و هو یعبر بالموضع هنا عن المخرج فیما یبدو، و یجری الصوت عن الشی‌ء الإضافی فی حالة الجهر عن حالة الهمس التی یجری النفس معها لا الصوت. «و قد ظلت محاولة سیبویه تفسیر المجهور و المهموس من الأصوات قانونا سار علیه جمیع من جاء بعده من النحاة و القراء. إلی أن جاءت بحوث المحدثین فصدقت كثیرا مما قاله فی هذا الباب» «4».
و من المفید الرجوع إلی ما فسره فی هذا المجال أستاذنا المرحوم الدكتور إبراهیم أنیس فقد أشبعها بحثا و تنویرا «5».
______________________________
(1) عبد الصبور شاهین، أثر القراءات فی الأصوات و النحو العربی: 198.
(2) سیبویه، الكتاب: 2/ 284.
(3) المصدر نفسه: 2/ 405.
(4) عبد الصبور شاهین، أثر القراءات فی الأصوات و النحو العربی: 205.
(5) ظ: إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 92 و ما بعدها.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 55
و لا یمكن فی منظورنا أن تفصل سیبویه عن مدرسة الخلیل فی اللغة و الأصوات، فهو الممثل الحقیقی لها فیما نقل لنا من علم الخلیل فی الكتاب، و تبقی مدرسة الخلیل الصوتیة منارا یستضاء به فی كثیر من الأبعاد لمن جاء بعده. فابن درید (ت: 321 ه) مثلا، یذكر فی مقدمة الجمهرة إفاضات الخلیل بعامة، و یضیف إلیها بعض الإشارات فی ائتلاف الحروف و الأصوات، و لكن هذا بالطبع لا یخرجه عن إطار هذه المدرسة فی كل الأحوال، فلدیه علی سبیل المثال جملة كبیرة من التسمیات المتوافقة مع الخلیل كالاصوات الرخوة، و الأصوات المطبقة، و الأصوات الشدیدة. كما أن له بعض الاجتهادات الصوتیة فی أكثر الحروف ورودا فی الاستعمال، فأكثرها الواو و الیاء و الهاء، و أقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشین ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم المیم «1».
و لا تعلم صحة هذا الاجتهاد إلا بالاحصار. و لیس كثیرا علی ابن درید الإحصاء و الاستقصاء.
و بعد مدرسة الخلیل نجد ابن جنی (ت: 392 ه) مؤصل هذا الفن و مبرمجه، و أول مضیف له إضافات مهمة ذات قیمة منهجیة فی الدراسات الصوتیة، بما تواضعنا علی تسمیته ب (الفكر الصوتی عند ابن جنی) أو أن جهود ابن جنی فی الأصوات ارتفعت إلی مستوی الفكر المخطط و الممنهج، فأفردناه ببحث خاص، إذ انتهل من هذا الفكر رواد هذا الفن كما سنری.
______________________________
(1) ظ: ابن درید، جمهرة اللغة: 1/ 306.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 56

الفكر الصوتی عند ابن جنی‌

اشارة

نهض ابن جنی (ت: 392 ه) بأعباء الصوت اللغوی بما یصح أن نطلق علیه اسم الفكر الصوتی، إذ تجاوز مرحلة البناء و التأسیس إلی مرحلة التأصیل و النظریة، فقد تمحض لقضیة الأصوات فی كتابه (سر صناعة الإعراب) مما جعله فی عداد المبدعین، و خطط لموضوعات الصوت مما اعتبر فیه من المؤصلین، و نحن الآن بإزاء بیان المبادئ العامة لفكره الصوتی دون الدخول فی جزئیات الموضوع.
و یجدر بنا فی بدایة ذلك أن ننتبه لملحظین مهمین و نحن نستعرض هذا الفكر فی سر صناعة الأعراب: «1» أ- إن ابن جنی كان أول من استعمل مصطلحا لغویا للدلالة علی هذا العلم ما زلنا نستعمله حتی الآن، و هو «علم الأصوات».
ب- إن ابن جنی یعدّ الرائد فی هذه المدرسة، و كان علی حق فی قوله فی كتابه: «و ما علمت أن أحدا من أصحابنا خاض فی هذا الفن هذا الخوض، و لا أشبعه هذا الإشباع ... «2»
و بدءا من المقدمة یعطیك ابن جنی منهجه الصوتی، لتقرأ فیه فكره، و تتلمس فلسفته، و تتثبت من وجهته، فیذكر أحوال الأصوات فی حروف المعجم العربی (من مخارجها و مدارجها، و انقسام أصنافها، و أحكام مجهورها و مهموسها، و شدیدها و رخوها، و صحیحها و معتلها، و مطبقها
______________________________
(1) ظ: أحمد مختار عمر، البحث اللغوی عند العرب: 99.
(2) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 63.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 57
و منفتحها، و ساكنها و متحركها، و مضغوطها و مهتوتها، و منحرفها و مشرّبها، و مستویها و مكررها، و مستعلیها و منخفضها، إلی غیر ذلك من أجناسها» «1».
و ابن جنی فی هذا الاسترسال السلس یعطینا مهمة الفكر الصوتی فی تحقیق المصطلحات بعامة عن طریق تشخیص المسمیات التی أسماها، و إن سبق إلی بعضها عند الخلیل و سیبویه و هو لا یكتفی بهذا القدر حتی یبحث الفروق، و یعین الممیزات و یذكر الخصائص لكل حرف من هذه الأصناف، و یفرق بینها و بین الحركات، مع لوازم البحث و مقتضیاته، إلماما بجمیع الجوانب، و تنقیبا عن كل النوادر المتعلقة بهذه الأبواب فیقول:
«و أذكر فرق ما بین الحرف و الحركة، و أین محل الحركة من الحرف:
هل هی قبله أو معه أو بعده؟ و أذكر أیضا الحروف التی هی فروع مستحسنة، و الحروف التی هی فروع مستقبحة، و الحركات التی هی فروع متولدة عن الحركات، كتفرع الحروف من الحروف. و أذكر أیضا ما كان من الحروف فی حال سكونه له مخرج ما، فإذا حرك أقلقته الحركة، و أزالته عن محله فی حال سكونه، و أذكر أیضا أحوال هذه الحروف فی أشكالها، و الغرض فی وضع واضعها، و كیف ألفاظها ما دامت أصواتا مقطعة، ثم كیف ألفاظها إذا صارت أسماء معرفة، ما الذی یتوالی فیه إعلالان بعد نقله، مما یبقی بعد ذلك من الصحة علی قدیم حاله، و ما یمكن تركبه و مجاورته من هذه الحروف و ما لا یمكن ذلك فیه، و ما یحسن و ما یقبح فیه مما ذكرنا، ثم أفرد- فیما بعد- لكل حرف منها بابا أغترف فیه ذكر أحواله و تصرفه فی الكلام من أصلیته و زیادته، و صحته و علته، و قلبه إلی غیره، و قلب غیره إلیه» «2».
إن هذا المنهج یكشف عن عمق الفكر الصوتی عند ابن جنی إذ یعرض فیه عصارة تجاربه الصوتیة دقیقة منظّمة، و یتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتیة بترتیب حصیف یتنقل فیه من الأدنی إلی الأعلی، و من البسیط إلی المركب حتی إذا تكاملت الصورة لدیه، بدأ بالبحث المركز،
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الإعراب: 1/ 3- 4.
(2) المصدر نفسه و الصفحة.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 58
فلا تری حشوة و لا نبوة، و لا تشاهد تكرارا أو اجترارا، فأنت بین یدی مناخ جدید مبوّب بأفضل ما یراد من التصنیف و التألیف، فلا تكاد تستظهر علما مما أفاض حتی یلاحقك علم مثله كالسبیل اندفاعا، و لعل أبرز ما تعقبه فی سر صناعة الاعراب لصوقا بجوهر الصوت الخالص البحوث الآتیة:
1- فرق ما بین الصوت و الحرف.
2- ذوق أصوات الحروف.
3- تشبیه الحلق بآلات الموسیقی (المزمار، العود).
4- اشتقاق الصوت و الحرف.
5- الحركات أبعاض حروف المد.
6- العلل و علاقتها بالأصوات.
7- مصطلحات الأصوات العشرة التی ذكرها آنفا مع ما یقابلها.
8- حروف الذلاقة و الإصمات.
9- حسن تألیف الكلمة من الحروف فیما یتعلق بالفصاحة فی اللفظ المفرد، و تأصیل ذلك علی أساس المخارج المتباعدة.
10- خصائص كل صوت من حروف المعجم، و حیثیاته، و جزئیاته كافة، بمباحث متخصصة لم یسبق إلیها فی أغلبها، فهی طراز خاص فی المنهج و العرض و التبویب.
و لو أضفنا إلی مباحث (سر صناعة الإعراب) جملة من مباحثه فی جهوده الأخری لا سیما فی كتاب (الخصائص) لتوصلنا من ضم بعضها لبعض إلی مجموعة مفضلة من مباحث الصوت اللغوی یمكن رصدها و تصنیفها علی النحو الآتی:
1- الصوامت من الحروف و الصوائت.
2- علاقة اللهجات بالأصوات.
3- علاقة الإعراب بالأصوات.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 59
4- التقدیم و التأخیر فی حروف الكلمات و تأثیرهما علی الصوت.
5- علاقة الافعال بالاصوات.
6- الإعلال و الإبدال و الإدغام و أثرها فی الأصوات.
7- الأصوات و علاقتها بالمعانی.
8- زیادة المبنی الصوتی و أثره فی زیادة المعنی.
و یبدو لی أن هذه هی أهم الأصول العامة لمباحث الصوت اللغوی عند ابن جنی فی كتابیه، و التوسع فی كل أصل یقتضی بحثا متكاملا فی كل مقوماته، و بذلك یتوصل إلی فكره الصوتی، فی العرض و الأسلوب و النتائج، و السبیل مسیرة أمام الباحثین، و لا بد لنا من الإشارة لملامح هذا الفكر فی نقاط، لأننا لسنا بإزاء تتبعه، بل بإزاء القربة إلیه لرصد ممیزاته و منهجه فی المعالجة و الإفاضة و التصنیف.
أولا: لقد تتبع ابن جنی الحروف فی المخارج، و رتبها و نظمها علی مقاطع مستفیدا بما ابتكره الخلیل، إلا أنه كان مخالفا له فی الترتیب، و موافقا لسیبویه فی الأغلب إلا فی مقام تقدیم الهاء علی الألف، و تسلسل حروف الصفیر «1».
و یرجح الدكتور حسام النعیمی أن تقدم الهاء علی الألف فی كتاب سیبویه من عمل النسّاخ، لأن ابن جنی- و هو أقرب إلی عصر سیبویه من النساخ المتأخرین- قد نصّ علی أن الألف مقدمة علی الهاء عند سیبویه، و إن حروف الصفیر و هی (الزای)، السین، الصاد) من مخرج واحد فلا یتقدم أحدها علی الآخر، فلم یبال بالتقدیم و التأخیر بینها لذلك «2».
و هكذا كان ترتیب الحروف عند ابن جنی علی ترتیب المخارج:
الهمزة، الألف، الهاء، العین، الحاء، الغین، الخاء، القاف، الكاف، الجیم، الشین، الیاء، الضاد، اللام، الراء، النون، الطاء، الدال، التاء،
______________________________
(1) قارن بین: سیبویه، الكتاب: 2/ 405+ ابن جنّی، سر الصناعة: 1/ 52- 53.
(2) ظ: حسام النعیمی، الدراسات اللهجیة و الصوتیة عند ابن جنّی: 301.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 60
الصاد، الزای، السین، الظاء، الذال، الثاء، الفاء، الباء، المیم، و الواو «1».
و هذا الترتیب مخالف للخلیل، و فیه بعض المخالفة لسیبویه فی ترتیبه كما یظهر هذا لدی المقارنة فی جدولة الترتیبین كما سبق.
و ابن جنی لا یخفی هذا الخلاف بل ینص علیه، و یذهب إلی صحة رأیه دونهما فیقول:
«فهذا ترتیب الحروف علی مذاقها و تصعدها، و هو الصحیح، فأما ترتیبها فی كتاب العین ففیه خطل و اضطراب، و مخالفة لما قدمناه آنفا محاربته سیبویه، و تلاه أصحابه علیه، و هو الصواب الذی یشهد التأمل له بصحته» «2».
ثانیا: و یضیف ابن جنی إتماما لنظریته فی الأصوات: ستة أحرف مستحسنة علی حروف المعجم العربی، و ثمانیة أحرف فرعیة مستقبحة، و لا یصح ذلك عنده إلا بالسمع و المشافهة، حتی تكون حروف المعجم مع الحروف الفرعیة المستحسنة خمسة و ثلاثین حرفا، و هما مع الحروف الفرعیة المستقبحة ثلاثة و أربعون حرفا.
و لا معنی لهذه الإضافات من قبله لو لم یكن معنیا بالصوت فحروف العربیة تسعة و عشرون حرفا، لا شك فی هذا، و لكن الحروف المستقبحة و المستحسنة التی أضافها، و إن لم یكن لها وجود فی المعجم العربی، إلا أن لها أصواتا فی الخارج عند السامعین، و هو إنما یبحث فی الأصوات فأثبتها، فعادت الأصوات فی العربیة عنده ثلاثة و أربعین صوتا، و هو إحصاء دقیق، و كشف جدید، و تثبیت بارع.
و قد ذهب ابن جنی فی هذه الحروف مذهبا فنیا تدل علیه قرائن الأحوال، فهو یعطی استعمالها فی مواطنه، و تشخیصها فی مواضعه، فالحروف المستحسنة عنده، یؤخذ بها فی القرآن و فصیح الكلام، و هی:
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 50
(2) المصدر نفسه: 1/ 50- 51.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 61
«النون الخفیفة، و الهمزة المخففة، و ألف التفخیم، و ألف الإمالة، و الشین التی كالجیم، و الصاد التی كالزای ... و الحروف الفرعیة المستقبحة، هی فروع غیر مستحسنة، لا یؤخذ بها فی القرآن و لا فی الشعر، و لا تكاد توجد إلا فی لغة ضعیفة مرذولة، غیر متقبلة. و هی: الكاف التی بین الجیم و الكاف، و الجیم التی كالكاف، و الجیم التی كالشین، و الضاد الضعیفة، و الصاد التی كالسین، و الطاء التی كالتاء، و الظاء التی كالثاء، و الباء التی كالمیم» «1».
ثالثا: و یحصر ابن جنی مخارج الحروف فی ستة عشر مخرجا، ناظرا إلی موقعها فی أجهزة النطق، و منطلقا معها فی صوتیتها، و یسیر ذلك بكل ضبط و دقة و أناقة، فیقول:
«و اعلم أن مخارج هذه الحروف ستة عشر، ثلاثة منها فی الحلق:
1- فأولها من أسفله و أقصاه، و مخرج الهمزة و الألف و الهاء.
2- و من وسط الحلق: مخرج العین و الحاء.
3- و مما فوق ذلك من أول الفم: مخرج الغین و الخاء.
4- و مما فوق ذلك من أقصی اللسان: مخرج القاف.
5- و من أسفل من ذلك و أدنی إلی مقدم الفم: مخرج الكاف.
6- و من وسط اللسان، بینه و بین وسط الحنك الأعلی: مخرج الجیم و الشین و الیاء.
7- و من أول حافة اللسان و ما یلیها: مخرج الضاد.
8- و من حافة اللسان من أدناها إلی منتهی طرف اللسان، من بینها و بین ما یلیها من الحنك الأعلی، مما فویق الضاحك و الناب و الرباعیة و الثنیة: مخرج اللازم.
9- و من طرف اللسان بینه و بین ما فوق الثنایا: مخرج النون
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 51.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 62
10- و من مخرج النون، غیر أنه أدخل فی ظهر اللسان قلیلا لانحرافه إلی اللام: مخرج الراء.
11- و مما بین طرف اللسان و أصول الثنایا: مخرج الطاء و الدال و التاء.
12- و مما بین الثنایا و طرف اللسان: مخرج الصاد و الزای و السین.
13- مما بین اللسان و أطراف الثنایا: مخرج الظاء و الذال و الثاء.
14- و من باطن الشفة السفلی و أطراف الثنایا العلی: مخرج الفاء.
15- و ما بین الشفتین، مخرج الباء و المیم و الواو.
16- و من الخیاشیم، مخرج النون الخفیفة، و یقال الخفیفة أی:
الساكنة، فذلك ستة عشر مخرجا» «1».
و حینما یتابع ابن جنی مسیرته الصوتیة فی مخارج هذه الحروف، نجده متمحضا لها فی دقة متناهیة بما نعتبره أساسا لما تواضع علیه الأوروبیون باسم الفونولوجی‌Phonolojy أی «التشكیل الأصواتی» أو هو النظام الصوتی فی تسمیة دی سوسور له و هو ما نمیل إلیه «2».
و من خلال هذا النظام نضع أیدینا علی عدة ظواهر صوتیة متمیزة فی المنهج الصوتی عند ابن جنی كشفنا عنها بصورة أولیة فی عمل أصواتی مستقل سبقت تغطیته «3».
الصوت اللغوی فی القرآن 62 الفكر الصوتی عند ابن جنی ..... ص : 56
و هنا نحاول فلسفتها بصورة متكاملة مقارنة بظروفها المماثلة فی الفكر الصوتی الإنسانی، فیما حقق من نظام أصواتی حدیث لا یختلف كثیرا عما أبداه ابن جنی فی الظواهر الآتیة:

1- مصدر الصوت و مصطلح المقطع:

: یتحدث ابن جنی عن مصدر الصوت، و كیفیة حدوثه، و طریق
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 52- 53.
(2) ظ: دی سوسور، علم اللغة العام: 51.
(3) ظ: المؤلف، منهج البحث الصوتی عند العرب: بحث.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 63
خروجه، و عوامل تقاطعه، و اختلاف جرسه بحسب اختلاف مقاطعه، و بذلك یعطینا الفروق الممیزة بین الأصوات و الحروف فیقول:
«اعلم أن الصوت عرض یخرج مع النفس مستطیلا متصلا، حتی یعرض له فی الحلق و الفم و الشفتین مقاطع تثنیه عن امتداده و استطالته، فیسمی المقطع أینما عرض له حرفا، و تختلف أجراس الحروف بحسب مقاطعها، و إذا تفطنت لذلك وجدته علی ما ذكرته لك، أ لا تری أنك تبتدئ الصوت من أقصی حلقك، ثم تبلغ به أی المقاطع شئت، فتجد له جرسا ما، فإن انتقلت عنه راجعا منه أو متجاوزا له ثم قطعت، أحسست عند ذلك صدی غیر الصدی الأول، و ذلك نحو الكاف، فإنك إذا قطعت بها سمعت هنا صدی ما، فإن رجعت إلی القاف سمعت غیره، و إن جزت إلی الجیم سمعت غیر ذینك الأولین ... «1»
هذا العرض فی إحداث الصوت كشف لنا عن مصطلح حدیث عند الأوروبیین هو المقطع، و أقف عنده لما استقطبه هذا الاصطلاح الذی سیره «ابن جنی» من مناقشات و ممارسات أصواتیة متمیزة، كان هو الأساس فیها فی الدلالة الدقیقة علی المعنی المراد دون غیره عند الأصواتیین العالمیین.
الأصوات عادة تتجمع فی وحدات، تكون تلك الوحدات أكبر من الأصوات بالضرورة، لأنها أطول مسافة صوتیة، فتشكل فی أكثر من صوت وحدة صوتیة معینة، و أهم هذه الوحدات هو المقطع الذی تذوقه ابن جنی، فرأی فیه ما یثنی الكلام عن استطالته و امتداده تارة، و ما تحس به صدی عند تغیر الحرف غیر الصدی الاول تارة أخری.
و التعریف البسیط للمقطع هو «تألیف أصواتی بسیط، تتكون منه واحدا أو أكثر كلمات اللغة، متفق مع إیقاع التنفس الطبیعی، و مع نظام اللغة فی صوغ مفرداتها» «2».
و قد جری تألیف المقطع العربی علی البدء بحرف صامت، و یثنی
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الأعراب: 1/ 6.
(2) عبد الصبور شاهین، علم الأصوات- الدراسة: 164.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 64
بحركة، و لا یبدأ بحركة إطلاقا خلافا للغات الأوروبیة.
و من المبادئ الأساسیة أن اللغة العربیة تبدأ كلماتها بمتحرك واحد، و تختمها إما بحركة، فهو المقطع المفتوح. و إما بصامت، فهو المقطع المقفل. و من غیر الممكن فی العربیة أن تبدأ الكلمة بمجموعة من الصوامت، أو أن یتخلل الكلمة أكثر من صامتین متجاورین، أو أن تختم الكلمة بمجموعة من الأصوات الصامتة «1».
إذن: حرف صامت+ حركة مقطع، و هذا هو المقطع القصیر، و قد یضاف إلی هذا حرف صامت، أو حركة أخری، فیكون المقطع طویلا، لأنه تجاوز الحد الأدنی من التكوین، و هو الحرف و الحركة، و تخطاهما إلی ثالث، حركة كان هذا الثالث أم حرفا.
و العربیة عادة تتكون الغالبیة العظمی من كلماتها من ثلاثة مقاطع فی المادة دون اشتقاقها، ففی الثلاثی خذ كلمة: «ذهب» فی ثلاثة مقاطع هی:
ذ/ ه/ ب، و كل مقطع هنا مكوّن من حرف و حركة كما تری.
قال ابن جنی، مستفیدا بما قدمه الخلیل «2»: «إن الاصول ثلاثة:
ثلاثی رباعی و خماسی، فأكثرها استعمالا، و أعدلها تركیبا الثلاثی، و ذلك لأنه: حرف یبتدأ به، و حرف یحشی به، و حرف یوقف علیه. و لیس اعتدال الثلاثی لقلة حروفه حسب، لو كان كذلك لكان الثنائی أكثر منه لأنه أقل حروفا ... فتمكن الثلاثی إنما هو لقلة حروفه لعمری، و لشی‌ء آخر هو حجز الحشو الذی هو عینه بین فائه و لامه، و ذلك لتعادی حالیهما. أ لا تری أن المبتدا لا یكون إلا متحركا و أن الموقوف علیه لا یكون إلا ساكنا، فلما تنافرت حالاهما وسطوا العین حاجزا بینهما لئلا یفجئوا و الحسّ بضد ما كان آخذا فیه» «3».
لقد أدرك الأصواتیون العرب هذا التخطیط المقطعی من ذی قبل
______________________________
(1) ظ: عبد الصبور شاهین، أثر القراءات فی الأصوات و النحو العربی: 409.
(2) ظ: عبارة الخلیل فی العین: 1/ 49.
(3) ابن جنی، الخصائص: 1/ 55- 56.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 65
فأكدوا علیه حتی فی تقطیع الوزن العروضی للشعر عند الخلیل فی حدود، و هو ما أثبته ابن جنی فی برمجته للمقاطع فی تفصیله.
و لقد أفاد الأوروبیون من هذا الملحظ إفادة تامة، فقد كان المقطع- تبعا للتفكیر التقلیدی عند الغربیین- یتكون من حركة تعتبر دعامة أو نواة، یحوطها بعض الصوامت‌Consonnes و علیه بنی اسم‌Consonne أی الذی یصوّت مع شی‌ء آخر، و هو الذی لا یصوت وحده، و أطلق علی الحركات اسم مصوتات‌Sonnetes لأنها قادرة علی التصویت دون الاعتماد علی شی‌ء آخر، و من هنا كان المفهوم الوظیفی للمقطع، كما جاءت أفكار الحركات و الصوامت «1».
و هو نفسه ما تحدث عنه ابن جنی، و هو الواقع فی الفكر الصوتی عند العرب فالحرف لا ینطق وحده فیشكل صوتا، إلا بانضمام الحركة إلیه، فیتكون بذلك المقطع الصالح للتصویت.
و یری أتوجسبرسن‌OttoJespersen : أن الوحدات الأصواتیة تتجمع حول الوحدة الأكثر إسماعا، بحسب درجة الوضوح السمعی، و المقطع طبقا لرأیه هو المسافة بین حدین أدنیین من الوضوح السمعی.
إن نظریة جسبرسن من بین ما ارتضاه عالم الأصوات الانجلیزی دانیال جونز، فهی وصف جید للمقطع المثالی، و لكنها لا تقول شیئا لنا عما هو جوهری فی المقطع، و لا تقول لنا: أن الحد بین المقاطع، و هو ما یطلق علیه الحد المقطعی «2».
حقا لقد كان البنیوی السویسری فردیناند دی سوسور أقرب إلی الفكر العربی فی تصوره لحدود المقطع الصوتی علی أساس درجة الانفتاح فی الأصوات، إذ تتجمع الصوامت حول الحركات تبعا لدرجة الانفتاح، فالحد المقطعی یوجد و یتوافر حین یكون التنقل من صوت أكثر انغلاقا إلی صوت أكثر انفتاحا «3».
______________________________
(1) ظ: برتیل مالمبرج، علم الأصوات: 155.
(2) ظ: المرجع نفسه بتصرف: 157.
(3) ظ: دی سوسور، علم اللغة العام: 77 و ما بعدها.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 66
إن هذا التوصل إلی حدود المقطع و تعریفاته عند الأوروبیین هو الذی ذهب إلیه ابن جنی، و أضاف إلیه ذائقة كل مقطع، قال: «و سبیلك إذا أردت اعتبار صدی الحرف أن تأتی به ساكنا لا متحركا، لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه و مستقره، و تجتذبه إلی جهة الحرف التی هی بعضه، ثم تدخل علیه همزة الوصل مكسورة من قبله، لأن الساكن لا یمكن الابتداء به، فتقول: اك. اق. اج، و كذلك سائر الحروف، إلا أن بعض الحروف أشد حصرا للصوت من بعضها» «1».
و هذا ما نعتبره ابتكارا لم یسبق إلیه، إلا فیما عند الخلیل فی ذواقة للأصوات اب/ ات/ اع/ اغ «2».
فإنها مقاطع طویلة مقفلة تكونت من ثلاثة عناصر فی كل منها هی الألف و الكسرة و الحرف: ب/ ت/ ع/ غ.
و المدهش حق عند ابن جنی أن یهتدی إلی سر المقطع من خلال تصریفه لشئون الحركات، فهو یعتبر الحركة صوتیا تتبع الحرف، فتجد بهما الصوت یتبع الحرف «و إنما یعرف هذا الصویت التابع لهذه الحروف و نحوها ما وقفت علیها، لأنك لا تنوی الأخذ فی حرف غیرها، فیتمكن الصویت فیظهر، فأما إذا وصلت هذه الحروف و نحوها، فإنك لا تحس معها شیئا من الصوت كما تجده معها إذا وقفت علیها» «3».

2- جهاز الصوت المنتقل:

یتحدث ابن جنی عن جهاز الصوت المنتقل، أو مجموعة الأجهزة الصوتیة فی الحلق و الفم، و سماعنا تلك الأصوات المختلفة، و ذلك عند ذائقته للحرف العربی، و وجدانه الاختلاف فی أجراسه، و التباین فی أصدائه فشبه الحلق بالمزمار، و وصف مخارج الحروف و مدارجها بفتحات هذا المزمار، و تتوجه عنایته بمجری الهواء فی الفم عند إحداث الأصوات،
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 7.
(2) ظ: الخلیل، العین: 1/ 47.
(3) ابن جنی، سر صناعة الاعراب: 1/ 7.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 67
و یشبه بمراوحة الزامر أنامله علی خروق النای لسماع الأصوات المتنوعة و المتشعبة بحسب تغییره لوضع أنامله لدی فتحتات المزمار، «فإذا وضع الزامر أنامله علی خروق النای المنسوقة، و راوح بین أنامله، اختلفت الأصوات، و سمع لكل منها صوت لا یشبه صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت فی الحلق و الفم، باعتماد علی جهات مختلفة، كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة» «1».
و كذلك تعقیبه علی هذا التمثیل فی إحداث الصوت بالنسبة لأوضاع أجهزة الصوت، بتشبیهه ذلك بوتر العود، و كیفیة ضربه ببعض أصابع الیسری أو جسّه فی الیمنی مما یحدث أصواتا مختلفة عند تلقی الأذن لذلك، فتتذوق من خلال ذلك جوهر الصوت، كما تتذوقه فی أصوات الحروف تبعا للرقة و الصلابة فی الوتر، و كذلك الحال بالنسبة للوترین الصوتیین فی جهاز النطق الصوتی عند الإنسان، یقول:
«و نظیر ذلك أیضا وتر العود، فإن الضارب إذا ضربه و هو مرسل سمعت له صوتا، فإن حصر آخر الوتر ببعض أصابع یسراه، أدی صوتا آخر، فإن أدناها قلیلا، سمعت غیر الاثنین، ثم كذلك كلما أدنی إصبعه من أول الوتر غفلا غیر محصور، تجده بالإضافة إلی ما أداه و هو مضغوط محصور، أملس مهتزا، و یختلف ذلك بقدر قوة الوتر و صلابته، و ضعفه و رخاوته، فالوتر فی هذا التمثیل كالحلق، و الخفقة بالمضراب علیه كأول الصوت من أقصی الحلق، و جریان الصوت فیه غفلا غیر محصور كجریان الصوت فی الألف الساكنة، و ما یعترضه من الضغط و الحصر بالأصابع كالذی یعرض للصوت فی مخارج الحروف من المقاطع، و اختلاف الأصوات هناك كاختلافها هنا» «2».
إن ما أبداه ابن جنی من تفصیل تمثیلی دقیق لجهاز النطق عند الإنسان و أثر انطلاق الهواء مضغوطا و غیر مضغوط فی إحداث الأصوات مختلفة بحسب إرادة الناطق أو المصوّت: هو ما تبناه علم الأصوت
______________________________
(1) ابن جنی، سر صناعة الإعراب: 1/ 9.
(2) المصدر نفسه: 1/ 9- 10.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 68
الفیزیولوجی (Phonnetics -Physiology( فی الحدیث عن الجهاز التنفسی الذی یقدم الهواء المناسب لتكییف حدوث الأصوات، و عن الحنجرة باعتبارها مفجرة الطاقة الصوتیة، و عن التجاویف فوق المزماریة التی تلعب دور عزف الرنین فی إنتاج غالبیة الضوضاء المستخدمة فی الكلام، و عن دور التنفس فی مرحلتی الشهیق و الزفیر فی اتساع القفص الصدری لدی الشهیق، فیدعو الهواء الخارجی بسبب هبوط الحجاب الحاجز، و ارتفاع الأضلاع إلی الدخول من فتحتی الأنف أو الفم عبر القصبة الهوائیة إلی الرئتین، فتنتج أصواتا استثنائیة مسموعة عند الأطفال، أو فی حالتی النشیج و الضحك.
أما الزفیر فیشتمل علی ارتفاع الحجاب الحاجز، و هبوط الأضلاع، و نتیجة لهذا یندفع الهواء بكمیة كبیرة من الرئتین، هذا الهواء المندفع بالزفیر هو الذی یستخدم فی التصویت «1».
إن هذا التحلیل الحدیث فی حدوث الأصوات من وجهة نظر علمیة أو تشریحیة هو الذی أراده ابن جنی فی عنایته بمجری الهواء فی عملیة إحداث الأصوات، و لكن بأسلوب یتجاوز مناخ بیئته إلی البیئات المعاصرة، و تشبیهه لهذا الجهاز بمراوحة الزامر أنامله فی خروق النای لسماع الأصوات لم یعد الیوم تشبیها بل عاد تسمیة اصطلاحیة فی علم الأصوات الفیزیولوجی بالنسبة للتصویت، إذ تطلق كلمة المزمار علی الفراغ المثلث المحاط بالحبلین الصوتیین «فالمزمار یكون مفتوحا فی التنفس العادی، كما یكون مفتوحا خلال النطق ببعض الصوامت المهموسة، أما خلال التصویت فإن المزمار یجب أن ینغلق، علی طول الخط الوسیط، فإذا بقی الجزء الموجود بین الغضروفین الهرمیین مفتوحا، بحیث یسمح للهواء بالمرور سمعنا صوتا مستسرا هو صوت الوشوشة، و إذا كان الائتلاف كاملا كان المزمار فی وضع الاستعداد للتذبذب ... و من الممكن أیضا أن نقصر التذبذب علی جزء من الحبل الصوتی، و بذلك نختصر طول الجسم المتذبذب، و هو ما یعطینا نغمة أكثر حدة. هذه المعطیات الفیزیولوجیة تتفق اتفاقا كاملا مع القوانین الفیزیقیة التی تحكم التردد
______________________________
(1) ظ: برثیل مالمبرج، علم الأصوات: 43 بتصرف.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 69
الخاص باسم التذبذب» «1».
أستطیع القول من خلال النص المتقدم دون مبالغة أو تردد: إن هذا النص یكاد أن یكون ترجمة عصریة لرأی ابن جنی فی تشبیهه جهاز الصوت لدی التذبذب فی إخراج الأصوات بالمزمار، الذی أصبح الیوم نقطة انطلاق الأصوات باعتباره فراغا یحاط بالوترین الصوتیین، إذ لم یكن هناك بد عند ابن جنی من تلمس جهاز ملموس للاستدلال من خلاله علی قضیة یصعب الاستدلال علیها فی عصره دون النظر إلی ذلك الجهاز، أما التشبیه الذی عاد الیوم مظنة لمساحة نطقیة قرب الحنجرة، فإنه قد لوّن بصبغة خاضعة لعلم التشریح، و لیس عصر ابن جنی عصر تشریح، و لا هو بمتخصص فیه مع فرض وجود أولیات الموضوع. لذلك جاءت هذه الترجمة معبرة عن رأیه، أو كاشفة عن تخطیطه تلقائیا، و حاكیة لتشبیهه تمثیلیا، و الأمر المنتزع من الحس، إذ أقیم علیه الدلیل الفعلی، كان مقاربا للأفهام، و مسایرا لحركة التفكیر.
لقد كان ابن جنی موضوعیا فی صفة الجهاز المتنقل فی الأصوات مما جعله فی عداد المؤسسین.

3- أثر المسموعات فی تكوین الأصوات:

و یتمرس ابن جنی بعض الحقائق الصوتیة، و لكنه یعرضها بحذر و یقظة، و قد ینسبها إلی بعض الناس، و ما یدرینا فلعلها له لأنه من بعضهم إلا أن له وجهة نظر قد تمنعه من التصریح بها لأسباب عقیدیة، قد لا یسیغها المناخ الاجتماعی فی نظر و إن كانت واقعا.
فهو یتحدث عن صدی الصوت فی بدایة تكوین اللغة، و أثر المسموعات الصوتیة فی نشوء الأصوات الإنسانیة، و هو ینقل ذلك عن بعضهم، و لكنه یذهب إلیه باعتباره مذهبا متقبلا، و وجها صالحا للتعلیل، دعما لنظریته الصوتیة التی یربط بها الأشباه و النظائر، و یحشد لها الدلائل و البراهین، فیقول:
______________________________
(1) المرجع السابق: 47 و ما بعدها باختصار.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 70
«و ذهب بعضهم إلی أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوی الریح، و حنین الرعد، و خریر الماء، و شحیج الحمار، و نعیق الغراب، و صهیل الفرس، و نزیب الظبی و نحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك.
و هذا عندی وجه صالح و مذهب متقبل» «1».
فهو یربط بین الأصوات الإنسانیة، و بین أصداء الطبیعة حینا، و أصوات الكائنات الحیوانیة حینا آخر، مما هو من ظواهر الموجودات فی الكون، و بین تكوین اللغات التی نشأت من هذه الأصوات فی بدایاتها الأولی.
«و قد ذهب إلی هذا الرأی معظم المحدثین من علماء اللغة و علی رأسهم العلامة وتنی‌Whitney - 2¬.
و هذا ما یوقفنا علی رأی الأوروبیین، و تعلیلهم الصوتی فی أصل نشوء اللغات، و أهمهما فی نظرنا ما یوافق ابن جنی المنقول آنفا، و القائل بامتداد الصوت عند الإنسان عن الصوت الطبیعی للأشیاء، أو الصوت الحیوانی غیر العاقل، و إن جملة اللغات الإنسانیة قد انحدرت من تلك الأصوات.
و هذا لا یمانع أن یكون اللّه سبحانه و تعالی هو ملهم الأصوات، و منشئ اللغات، و معلم الكائنات، فهذا هو الاعتقاد الصحیح الذی لا تشوبه شائبة، فالكلام عن هذا شی‌ء و البحث عن أصل اللغات فی انطلاق الأصوات شی‌ء آخر.
علی أن هناك رأیا آخر یذهب إلی أن استعمال الإنسان لجهازه الصوتی كان عن طریق التأوهات و الشهقات التی صدرت عنه بصورة لا إرادیة، و ذلك حینما عبر عن آلامه حینا، و آماله حینا آخر «3».
______________________________
(1) ابن جنی، الخصائص: 1/ 46- 47.
(2) علی عبد الواحد وافی، علم اللغة: 95.
(3) ظ: فی تفصیل هذه النظریات، إبراهیم أنیس، دلالة الألفاظ: 20- 35.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 71

4- محاكاة الأصوات:

و قد ذهب ابن جنی مذهبا صوتیا فریدا یربط بین الصوت و الفعل تارة، و بین الصوت و الاسم تارة أخری، و یبحث علاقة كل منهما بالآخر علاقة حسیة و مادیة متجسدة، فجرس الألفاظ و وقعها فیما یحدثه من أصوات و أصداء سمعیة قد یكون متجانسا و مقاربا لنوعیة عنده فیقول:
«فإن كثیرا من هذه اللغة وجدته مضاهیا بأجراس حروفه أصوات الأفعال التی عبر بها عنها، أ لا تراهم قالوا: قضم فی الیابس، و خضم فی الرطب. و ذلك لقوة القاف و ضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوی للفعل الأقوی، و الصوت الأضعف للفعل الأضعف» «1».
و تجده یلائم بین الصوت اللغوی و علاقته بصوت الطائر فی الاستطالة و القطع، فالراء مرددة مكررة مستطیلة، و صوت الجندب مثلا مستطیل، فجعلت له «صرّ» مشددة، و صوت البازی مثلا متقطع، فقطعت الراء فكانت «صرصر» و ذلك ما رآه:
«و كذلك قالوا «صر الجندب» فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، و قالوا «صرصر البازی» لما هناك من تقطیع صوته» «2».
و فی هذا المجال فإن ابن جنی لا یقف عند هذا الحد من النظریة و التطبیق، بل یربط أحیانا بین الأصوات و بین ما سمی به الشی‌ء، نظرا لمشابهته لذلك الصوت المنطلق من التسمیة، كالبط لصوته، و الواق للصرد لصوته، و غاق للغراب لصوته «3».
و هو بهذا یذهب مذهب من یجد مناسبة ما بین الصوت و المعنی، لا سیما عند البلاغیین فی التماس علاقة اللفظ بالمعنی، أو فی الدلالة الحسیة للفظ بالمعنی، و هو من باب تسمیة الشی‌ء باسم صوته، و تلك مقولة صحیحة فی جملة من الأبعاد، و حقیقة فی كثیر من المسمیات و التسمیات.
______________________________
(1) ابن جنی، الخصائص: 1/ 65.
(2) المصدر نفسه: 1/ 165.
(3) المصدر نفسه 2/ 165.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 72
و ابن جنی یؤكّد هذه الحقیقة فی المفردات اللغویة، لیعطیها صفة صوتیة متمازجة، فالعرب «قد یضیفون إلی اختیار الحروف و تشبیه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتیبها، و تقدیم ما یضاهی أول الحدیث، و تأخیر ما یضاهی آخره، و توسیط ما یضاهی أوسطه، سوقا للحروف علی سمت المعنی المقصود و الغرض المطلوب، و ذلك كقولهم: بحث، فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف علی الأرض، و الحاء لصلحها تشبه مخاطب الأسد و براثن الذئب و نحوهما إذا غارت فی الأرض، و الثاء للنفث و البث للتراب» «1».
و لا غرابة بعد هذا أن نجد صیغتین من صیغ العربیة تدلان علی الحدث الصوتی من جانبین:
أ- فعال، و تستعمل فی جزء كبیر منها للدلالة علی الأصوات و الضوضاء مثل: صراخ.
ب- فعللة، فإنها تستعمل فی العربیة فی جزء كبیر منها للدلالة علی حكایات الأصوات مثل: «الغرغرة» فإن صوتها من جنس تشكیل حروفها لفظیا، و إن معناها صدی من أصداء صوتها.
هذا نفسه هو ما ینجم عن التولید الصوتی للألفاظ عند الأوروبیین، كما فی الكلمة (قهقه) و الأصوات فیها دلیل من دلائل المعنی، و إذا أضفنا إلی (قهقه) (تمایل) فإننا سنجد فی الكلمة الأولی حدث تقلید صوت لصوت آخر، و فی الثانیة ترجمت الحركة ترجمة بیانیة بوسائل صوتیة.
و المصطلح الذی یغلب إطلاقه فی حالة الكلمات التی من هذا النوع هو (محاكاة الأصوات‌Onomatopeid ( 2¬.
هذه جولة قد تكون نافعة فیما أوجده لنا ابن جنی من تأصیل صوتی لكثیر من الملامح و الخصائص و المكتشفات.
______________________________
(1) ابن جنّی، الخصائص:/ 162- 163.
(2) ظ: ستیفن أولمان، دور الكلمة فی اللّغة: 73- 74 بتصرف.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 73

القرآن و الصوت اللغوی‌

اتخذت المباحث الصوتیة عند العرب القرآن أساسا لتطلعاتها، و آیاته مضمارا لاستلهام نتائجها، و هی حینما تمازج بین الأصوات و اللغة، و تقارب بین اللغة و الفكر، فإنما تتجه بطبیعتها التفكیریة لرصد تلك الأبعاد مسخرة لخدمة القرآن الكریم، فالقرآن كتاب هدایة و تشریع لا شك فی هذا، و لكنه من جانب لغوی كتاب العربیة الخالد، یحرس لسانها، و یقوّم أود بیانها، فهی محفوظة به، و هو محفوظ باللّه تعالی: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) «1». لهذا بقیت العربیة فی ذروة عطائها الذی لا ینضب، و ظلت إضاءتها فی قمة ألقها الذی لا یخبو، فكم من لغة قد تدهورت و تعرضت لعوامل الانحطاط، و انحسرت أصالتها برطانة الدخیل المتحكم من اللغی الأخری، فذابت و خمد شعاعها الهادی، إلا العربیة فلها مدد من القرآن، و رافد من بحره المتدفق بالحیاة، تحسه و كأنك تلمسه، و تعقله و كأنك تبصره، فهو حقیقة مستطیلة لا تجحد، مسك القرآن باللسان العربی عن الانزلاق، و أفعم التزود اللغوی عن الارتیاد فی لغات متماثلة، حتی عاد اللسان متمرسا علی الإبداع، و التزود سبیلا للثقافات الفیاضة، لا یحتاج إلی لغة ما، بل تحتاجه كل لغة.
و رصد أیة ظاهرة لغویة یعنی العنایة باللغة ذاتها، و یتوجه إلی ترصین دعائمها من الأصل، لأن الأصوات بانضمام بعضها إلی بعض تشكل مفردات تلك اللغة، و المفردات وحدها تمثل معجمها، و بتألیفها تمثل الكلام فی تلك اللغة، و القدرة علی تناسق هذا الكلام و تآلفه، من مهمة
______________________________
(1) الحجر: 9.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 74
الأصوات فی تناسقها و تآلفها، و تنافر الكلمات و تهافتها قد یعود علی الأصوات فی قرب مخارجها أو تباعدها، أو فی طبیعة تركیبها و تماسها، أو من تداخل مقاطعها و تضامها، ذلك أن اللغة أصوات. «و مصدر الصوت الإنسانی فی معظم الأحیان هو الحنجرة، أو بعبارة أدق: الوتران الصوتیان فیها، فاهتزازات هذین الوترین هی التی تنطلق من الفم أو الأنف ثم تنتقل خلال الهواء الخارجی» «1».
و لغتنا العربیة كبقیة لغات العالم، عبارة عن أصوات متآلفة تنطلق من الوتر بین الصوتیین لتأخذ طریقها إلی الخارج.
بید أن العربیة سمیت باسم صوت متمیز بین الأصوات فعاد معلما لها، و مؤشرا علیها، فقیل: لغة الضاد.
و مع أن ابن فارس (ت: 395 ه-) یقول:
«و مما اختصت به لغة العرب الحاء و الظاء» «2». إلا أن الضاد یبقی صوتا صارخا فی العربیة لا مشابه له فی اللغات العالمیة، بل و حتی فی اللغات السامیة القریبة الأصر من اللغة العربیة، و كان لهذا الصوت نصیبه من الالتباس بصوت «الظاء» فكانت الإشارة منا فی عمل مستقل إلی الاختلاف فیما بین الضاد و الظاء حتی عند العرب أنفسهم، و أن الالتباس بالضاد كان ناجما عن مقاربتها للظاء فی الأداء، و عدم تمییز هذین الصوتین حتی لدی العرب المتأخرین عن عصر القرآن «3».
و من عجائب القرآن الأدائیة، وضعه هذین الصوتین فی سیاق واحد، و بعرض مختلف، فی مواضع عدیدة من القرآن، ذلك من أجل الدربة الدقیقة علی التلفظ بهما، و المران علی استعمالهما منفصلین، بتفخیم الضاد و ترقیق الظاء، قال تعالی: ... وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلی رَبِّی إِنَّ لِی عِنْدَهُ لَلْحُسْنی فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِیقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِیظٍ (50)
______________________________
(1) إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 8.
(2) ابن فارس، الصاحبی فی فقه اللغة: 100.
(3) المؤلف، منهج البحث الصوتی عند العرب: بحث.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 75
وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَی الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأی بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ (51) «1». فالظاء فی (غلیظ) و الضاد فی (أعرض) و فی (عریض) مما تواضع الأوائل علی قراءته بكل دقة و تمحیص، و میزوا بذائقتهم الفطریة فیما بین الصوتین.
و الحاء بالعربیة تنطق «هاء» فی بعض اللغات السامیة، و كذلك صوتها فی اللغات الأوروبیة، فهما من مخرج واحد «و لو لا هتة فی الهاء لأشبهت الحاء لقرب مخرج إلهاء من الحاء» «2».
و لعمق التوجه الصوتی فی القرآن لدی التمییز بین المقاربات نجده یضعهما فی سیاق واحد فی كثیر من الآیات، من أجل السلیقة العربیة الخالصة، قال تعالی:
فَسِیحُوا فِی الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَیْرُ مُعْجِزِی اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِی الْكافِرِینَ (2) وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَی النَّاسِ یَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ... (3) «3».
فالحاء من «فسیحوا» و الهاء من «أشهر» فی الآیة الأولی إلی جنب الهاء من «اللَّهِ وَ رَسُولِهِ» و الحاء من «الحج» فی الآیة الثانیة، جاءت جمیعها بسیاق قرآنی متناسق فی هدف مشترك للتمییز بین الصوتین حینا، و للحفاظ علی خصائص العربیة حینا آخر، و لبیان اختلاطهما عند غیر العربی المحض، فلا یستطیع أداء «الحاء» تأدیته «الهاء» إذ قد یلتبسان علیه، و هو جانب فنی حرص القرآن علی كشفه بعیدا عن الغرض الدینی إلا فی وجوب أداء القرآن قراءة كما نزل عربیا مبینا.
لهذا نری أن القرآن هو القاعدة الصلبة للنطق العربی الصحیح لجملة أصوات اللغة، و لا سیما الضاد و الظاء أو الحاء و الهاء، فی التمرس علیهما و التفریق الدقیق بینهما.
و لقد كان سلیما جدا ما توصل إلیه صدیقنا المفضل الدكتور أحمد مطلوب عضو المجمع العلمی العراقی بقوله:
______________________________
(1) حم السجدة (فصلت): 50- 51.
(2) الخلیل، كتاب العین: 1/ 57.
(3) التوبة: 2- 3.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 76
«إن من أهم خصائص العربیة ثبات أصوات الحروف فیها، لأن جوهر الصوت العربی بقی واضحا، و هو ما یتمثل فی قراءة القرآن الكریم و إخراج الحروف الصامتة إخراجا یكاد یكون واحدا» «1». لأن اللغة العربیة تستمد أصولها من القرآن، بل تبقی أصولها ثابتة فی القرآن، و أولویات هذه الأصول هی الأصوات لأن الأصوات أصل اللغات.
و لا غرابة بعد هذا أن یكون استقراء ملامح الظاهرة الصوتیة فی التراث العربی الإسلامی یوصلنا إلی أن القرآن الكریم هو المنطلق الأساس فیها، و أنه قد نبه بتأكید بالغ علی مهمة الصوت اللغوی فی إثارة الإحساس الوجدانی عند العرب، و إیقاظ الضمائر الإنسانیة للتوجه نحوه لدی استعماله الحروف الهجائیة المقطعة فی جمهرة من فواتح السور القرآنیة، و فی أسرار فواصل الآیات، و فی قیم الأداء القرآنی، و فی الدلالة الصوتیة للألفاظ فی القرآن، و هو ما خصصت له هذه الرسالة فصولا مستقلة، شكلت المادة الأولیة للبنات الموضوع، و نهضت بمفصّل حیثیات الصوت اللغوی فی القرآن.
و لا بد من الإشارة هنا إلی أن البدایة فی اعتماد الصوت اللغوی فی القرآن ضمن الدراسات العربیة قد جاء ضمن مجموعتین دراستین هما:
الدراسات القرآنیة و الدراسات البلاغیة، و لا بد من الإشارة قبل ذلك إلی تردد جهود بعض الفلاسفة الموسوعیین لمجمل حیاة الأصوات تمهیدا لخوضها فی القرآن.
فهذا ابن سینا (ت: 428 ه-) یضع رسالة متخصصة نادرة فی الأصوات أسماها (أسباب حدوث الحروف) «2». و قد كان متمرسا فیها للإشارات الصوتیة و تمییزها فی الأسماع، و تحدث عن مخارج الأصوات و غضاریف الحنجرة، و عرض للفم و اللسان تشریحیا و طبیا و تركیبیا، و عنی عنایة خاصة بترتیب مخارج الصوت العربی مقارنا باللغات الأخری بحسب تركیب أجهزة الصوت الإنسانی، و بحث ممیزات الحرف العربی صوتیا،
______________________________
(1) أحمد مطلوب، بحوث لغویة: 27.
(2) طبعت فی القاهرة، 1332 ه- 1352 ه.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 77
و حكم جهازه السمعی فی معرفة الأصوات و أثر تذبذبها. و أما الدراسات القرآنیة، فقد انطلقت إلی دراسة الأصوات من خلال الفصول القادمة فی الرسالة ضمن موضوعاتها الدقیقة المتخصصة، و كانت علی نوعین كتب إعجاز القرآن و كتب القراءات. أما كتب إعجاز القرآن، فقد كان المجلی فیها بالنسبة للصوت اللغوی علی بن عیسی الرمانی (ت: 386 ه) فهو أبرز الدراسین صوتیا، و أقدمهم سبقا إلی الموضوع، و أولهم تمرسا فیه، إلا أنه بالضرورة قد مزج بین دراسة الأصوات و علم المعانی مطبقا تجاربه فی باب التلاؤم تارة و متخصصا لدراسة فواصل الآیات بلاغیا كما سیأتی فی موضعه.
أما التلاؤم الصوتی عند الرمانی فهو نقیض التنافر، و التلاؤم تعدیل الحروف فی التألیف، لأن تألیف الكلام علی ثلاثة أوجه: متنافر، و متلائم فی الطبقة الوسطی، و متلائم فی الطبقة العلیا «1».
و یعود الرمانی بالتلاؤم إلی تجانس الأصوات، و لما كانت أصوات القرآن متجانسة تماما، فإن القرآن كله متلائم فی الطبقة العلیا، و ذلك بین لمن تأمله، و الفرق بین القرآن و بین غیره من الكلام فی تلاؤم الحروف علی نحو الفرق بین المتنافر و المتلائم فی الطبقة الوسطی، و بعض الناس أشد إحساسا بذلك و فطنة له من بعض «2».
و یبحث الرمانی التلاؤم فی أصوات القرآن من وجوه:
1- السبب فی التلاؤم و یعود به إلی تعدیل الحروف فی التألیف، فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤما.
2- و الفائدة فی التلاؤم، و یعود بها إلی حسن الكلام فی السمع، و سهولته فی اللفظ، و تقبل المعنی له فی النفس لما یرد علیها من حسن الصورة و طریق الدلالة.
3- و ظاهرة التلاؤم، و یعود بها إلی مخارج الحروف فی اختلافها،
______________________________
(1) الزمانی، النكت فی إعجاز القرآن: 94.
(2) المصدر نفسه: 95.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 78
فمنها ما هو من أقصی الحلق، و منها ما هو من أدنی الفم، و منها ما هو فی الوسط بین ذلك.
«و التلاؤم فی التعدیل من غیر بعد شدید أو قرب شدید. و ذلك یظهر بسهولته علی اللسان، و حسنه فی الأسماع، و تقبله فی الطباع، فإذا انضاف إلی ذلك حسن البیان فی صحة البرهان فی أعلی الطبقات، ظهر الإعجاز للجید الطباع البصیر بجواهر الكلام» «1».
و أما كتب القراءات، فقد انتهی كثیر منها بإعطاء مصطلحات صوتیة اقترنت بالنحو تارة و باللغة تارة أخری، و تمحضت للصوت القرآنی بینهما، و كان ذلك فی بحوث متمیزة برز منها: الإدغام، الإبدال، الإعلال، الإخفاء، الإظهار، الإشمام، الإمالة، الإشباع، المد، التفخیم، الترقیق مما اصطنعه علماء الأداء الصوتی للقرآن كما سیأتی بحثه فی حینه.
الحق أن الصوت اللغوی فی القرآن قد بحث متناثرا هنا و هناك فی مفردات حیة، تتابع علیها جملة من الأعلام المبرزین الذین اتسمت جهودهم بالموضوعیة و التجرد و بیان الحقیقة، كان منهم: علی بن عیسی الزمانی (ت:
386 ه) و أبو بكر الباقلانی (ت: 403 ه) و أبو عمر الدانی (ت: 444 ه-) و محمد بن الحسن الطوسی (ت: 548 ه-) و جار اللّه الزمخشری (ت: 538 ه) و أبو علی الطبرسی (ت 548 ه) و عبد اللّه بن محمد النكزاوی (ت:
683 ه) و إبراهیم بن عمر الجعبری (ت: 732 ه) و بدر الدین الزركشی (ت: 794 ه) و جلال الدین السیوطی (ت: 911 ه).
و أما الدراسات البلاغیة التی اشتملت علی خصائص الأصوات فقد بحثت علی أیدی علماء متمرسین كالشریف الرضی (ت: 406 ه) و عبد القاهر الجرجانی (ت: 471 ه) و ابن سنان الخفاجی (ت: 466 ه) و أبی یعقوب السكاكی (ت: 626 ه) و أضرابهم:
و كانت مباحثهم طبقا لتوجه علم المعانی: و تزاحم الأصوات فی قبول ذائقتها النطقیة أو السّمعیة و رفضها، من خلال: تنافر الحروف، تلاؤم الأصوات، التعقید اللفظی، التعقید المعنوی، فصاحة اللفظ المفرد، مما
______________________________
(1) الرمانی: النكت فی إعجاز القرآن: 96.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 79
هو معلوم فی مثل هذه المباحث مما یتعلق بالصوت منها، و خلصت إلی القول بخلو القرآن العظیم من التنافر فی الكلمات، أو التشادق فی الألفاظ، أو العسر فی النطق، أو المجانبة للأسماع، و كونه فی الطبقة العلیا من الكلام فی تناسقه و تركیبه و تلاؤمه.
أما ما یتعلق بالأصوات من مخارجها فی موضوع التنافر فلهم بذلك رأیان:
الأول: أن التنافر یحصل بین البعد الشدید أو القرن الشدید و قد نسب الرمانی هذا الرأی إلی الخلیل «و ذلك أنه إذا بعد الشدید كان بمنزلة الطفر، و إذا قرب القرب الشدید كان بمنزلة مشی المقید، لأنه بمنزلة رفع اللسان و رده إلی مكانه، و كلاهما صعب علی اللسان، و السهولة من ذلك فی الاعتدال، و لذلك وقع فی الكلام الإدغام و الإبدال» «1».
الثانی: أن التنافر یحصل فی قرب المخارج فقط و هو ما یذهب إلیه ابن سنان الخفاجی (ت: 466 ه) بقوله: «و لا رأی التنافر فی بعد ما بین مخارج الحروف و إنما هو فی القرب. و یدل علی صحة ذلك الاعتبار، فإن هذه الكلمة «الم» غیر متنافرة، و هی مع ذلك مبنیة من حروف متباعدة المخارج- لأن الهمزة من أقصی الحلق، و المیم من الشفتین، و اللام متوسطة بینهما. فأما الإدغام و الإبدال فشاهدان علی أن التنافر فی قرب الحروف دون بعدها، لأنهما لا یكادان یردان فی الكلام إلا فرارا من تقارب الحروف، و هذا الذی یجب عندی اعتماده لأن التتبع و التأمل قاضیان بصحته» «2».
و قد یتبعه بالرد علی هذا الرأی ابن الأثیر (ت: 637 ه) فقال: «أما تباعد المخارج فإن معظم اللغة العربیة دائر علیه ... و لهذا أسقط الواضع حروفا كثیرة فی تألیف بعضها مع بعض استثقالا و استكراها، فلم یؤلف بین حروف الحلق كالحاء و الخاء و العین، و كذلك لم یؤلف بین الجیم و القاف، و لا بین اللام و الراء، و لا بین الزای و السین، و كل هذا دلیل علی عنایته
______________________________
(1) الرمانی، النكت فی إعجاز القرآن: 96.
(2) ابن سنان الخفاجی، سر الفصاحة: 91.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 80
بتألیف المتباعد المخارج، دون المتقارب» «1».
و بعیدا عن هذا و ذاك، فان الطبیعة التركیبة فی اللغة العربیة قد تمرست فی تعادل الأصوات و توازنها، مما جعل لغة القرآن فی الذروة من طلاوة الكلمة، و الرقة فی تجانس الأصوات، لذلك فقد استبعد العرب جملة من الألفاظ لا تنسجم صوتیا فی تداخل حروفها، و تنافر مخارجها، سواء أ كانت قریبة أم بعیدة «فإن الجیم لا تقارن الفاء و لا القاف و لا الطاء و لا الغین بتقدیم و لا بتأخیر.
و الزای لا تقارن الظاء و لا السین و لا الضاد و لا الذال بتقدیم و لا تأخیر» «2».
و فی هذا دلالة علی «امتیاز اللغة العربیة فی مجموع أصوات حروفها بسعة مدرجها الصوتی سعة تقابل أصوات الطبیعة فی تنوعها وسعتها، و تمتاز من جهة أخری بتوزعها فی هذا المدرج توزعا عادلا یؤدی إلی التوازن و الانسجام بین الأصوات» «3».
و كان التنافر فی أصوات الكلمة موضع عنایة عند السكاكی (ت:
626) و من بعده القزوینی (ت: 739 ه) عند مباحث فصاحة المفرد، و هی خلوصه من تنافر الحروف و الغرابة، و مخالفة القیاس اللغوی، و عند فصاحة الكلام، و هی خلوصه من ضعف التألیف، و تنافر الكلمات، و التعقید بشقیه اللفظی و المعنوی، و هی موضوعات جری علی إدراجها فی الموضوع علماء المعانی و البیان بعد السكاكی و القزوینی إدراجا تقلیدیا للقول بسلامة القرآن من التنافر «4».
و لا حاجة بنا إلی تأكید هذا القول فهو أمر مفروغ عنه فی القرآن، و بقیت مفردات الصوت اللغوی فیه موضع عنایة البحث.
______________________________
(1) ابن الأثیر، المثل السائر: 152.
(2) الجاحظ، البیان و التبیین: 1/ 69.
(3) أحمد مطلوب، بحوث لغویة: 28.
(4) ظ: القزوینی، الإیضاح فی علوم البلاغة: 72- 79.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 81

الفصل الثالث الصوت اللغوی فی فواتح السور القرآنیة

1- القرآن یوجه اهتمام العرب للصوت اللغوی 2- أصناف الأصوات اللغویة فی فواتح السور عند الباقلانی.
3- جدولة الصوت اللغوی فی فواتح السور عند الزمخشری 4- الصدی الصوتی للحروف المقطعة عند الزركشی 5- القرآن فی تركیبه الصوتی من جنس هذه الأصوات
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 83
یبدو أن القرآن الكریم قد وجه اهتمام العرب- منذ عهد مبكر- و لفت نظرهم إلی ضرورة الإفادة من الزخم الصوتی فی اللغة العربیة و هو یستهل بعض السور القرآنیة بجملة محددة من الحروف الهجائیة التی تنطق بأصواتها أسماء، لا بأدواتها حروفا، للإفادة من صوتیتها لدی الاستعمال دون حرفیتها.
و كان القرآن العظیم قد افتتح عامة سوره بعشرة أنواع بیانیة من فن القول شملت طائفة متمیزة من معانی النحو و أسالیب البلاغة حتی حصر أرباب علوم القرآن ذلك بذلك دون تزیّد علیها أو نقصان منها، فلا یخرج شی‌ء من فواتح السور عنها، و قد یتداخل بعضها ببعض تارة «1».
و لعل من المفید حقا الإشارة علی سبیل النموذج بأصل قرآنی واحد لكل نوع تمهیدا بین یدی النوع المراد بحثه صوتیا، و سنكتفی بإیراد هذا النموذج الواحد للدلالة علیه فی النماذج الثرة المتوافرة وجودها فی أضراب أخری لكل أصل.
1- الاستفتاح بالثناء علی اللّه تعالی، كما فی أول الفاتحة، و ذلك قوله تعالی: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ (1)،
______________________________
(1) ظ: للتفصیل، الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 164.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 84
2- الاستفتاح بالنداء، كما فی أول المدثر، و ذلك قوله تعالی:
یا أَیُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).
3- الاستفتاح بالقسم، كما فی أول سورة الفجر، و ذلك قوله تعالی: وَ الْفَجْرِ (1).
4- الاستفتاح بالجملة الخیریة، كما فی أول سورة «المؤمنون» و ذلك قوله تعالی: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1).
5- الاستفتاح بصیغة الأمر، كما فی أول سورة العلق، و ذلك قوله تعالی: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِی خَلَقَ (1) 6- الاستفتاح بصیغة الشرط، كما فی أول سورة النصر، و ذلك قوله تعالی: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) 7- الاستفتاح بصیغة الاستفهام، كما فی أول سورة النبأ، و ذلك قوله تعالی: عَمَّ یَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِیمِ (2).
8- الاستفتاح بالدعاء، كما فی أول سورة المطففین، و ذلك قوله تعالی: وَیْلٌ لِلْمُطَفِّفِینَ (1).
9- الاستفتاح بالتعلیل، و قد ورد مرة واحدة فی القرآن، فی أول سورة الإیلاف، و ذلك قوله تعالی: لِإِیلافِ قُرَیْشٍ (1).
10- الاستفتاح بحروف التهجی، و هی موضوع هذا البحث فی الصوت اللغوی، إذ تم استفتاح تسع و عشرین سورة فی المصحف الشریف بحروف هجائیة مقطعة یمكن حصرها بالضبط فی النحو الآتی:
أ- ثلاثة حروف موحدة هی: ص. ق. ن.
ب- عشرة حروف مثناة هی: طه، طس، یس، و حم استعملت فی افتتاح سبع سور، فهذه عشرة.
ج- اثنا عشر مثلثة الحروف هی: الم، الر، طسم.
و قد تكرر الأولان عدة مرات فی المصحف دون طسم.
د- اثنان حروفهما أربعة: المر. المص.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 85
ه- اثنان حروفهما خمسة: كهیعص. حمعسق.
و قد اهتم علماء الإعجاز القرآنی بالتصنیف الصوتی لهذه الحروف فی فواتح هذه السورة، و بیان أسرارها التركیبیة، و دلائلها الصوتیة، و كان أبو بكر الباقلانی (ت: 403 ه) فی طلیعة هؤلاء الاعلام، فقال:
«إن الحروف التی بنی علیها كلام العرب تسعة و عشرون حرفا، و عدد السور التی افتتح فیها بذكر الحروف ثمان و عشرون «1» سورة، و جملة ما ذكر من هذه (الحروف) فی أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، و هو أربعة عشر حرفا لیدل بالمذكور علی غیره، و الذی تنقسم إلیه هذه الحروف أقساما: فمن ذلك قسموها إلی حروف مهموسة و أخری مجهورة، فالمهموسة منها عشرة و هی: الحاء و الهاء و الخاء و الكاف و الشین و الثاء و الفاء و التاء و الصاد و السین.
و ما سوی ذلك من الحروف فهی مجهورة، و قد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة فی جملة الحروف المذكورة فی أوائل السورة، و كذلك نصف الحروف المجهورة علی السواء لا زیادة و لا نقصان» «2».
فالباقلانی یعدد حروف المعجم، و یقارن ذلك بأعداد حروف السور المفتتحة بها، و یضیف هذه الحروف، و هی إما مجهورة، و إما مهموسة و نصف هذه الحروف بتقسیمها مقسوم علی السواء بین حروف هذه الفواتح القرآنیة، فنصف المهموسة مذكور فی جملة هذه الحروف، و نصف المجهورة مذكور أیضا دون تزیّد علیها أو نقصان منها.
و قد أیّد أهل اللغة المذهب الأول للباقلانی بما أورده الشیخ الطوسی (ت: 460 ه) عنهم «فقال بعضهم: هی حروف المعجم استغنی بذكر ما ذكر منها فی أوائل السور عن ذكر بواقیها التی هی تمام ثمانیة و عشرین حرفا كما یستغنی بذكر: أ. ب. ت. ث. عن ذكر الباقی» «3».
______________________________
(1) تقدم أنها تسع و عشرون سورة.
(2) الباقلانی، إعجاز القرآن: 66.
(3) الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن: 1/ 48.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 86
ثم یعرض الباقلانی إلی تفصیل آخر: أن نصف حروف الحلق (العین و الحاء و الهمزة و الهاء و الخاء و الغین) مذكور فی جملة هذه الحروف، و أن النصف المذكور هو: العین و الحاء و الهاء. و كذلك نصف عدة الحروف التی لیست من حروف الحلق مذكور فی جملة هذه الحروف. و أن نصف الحروف الشدیدة: (الهمزة و القاف و الكاف و الجیم و التاء و الدال و الطاء و الباء) مذكور فی جملة هذه الحروف، و المذكور: الطاء و القاف و الكاف و الهمزة. و أن نصف الحروف المطبقة و هی (الطاء و الضاد و الصاد و الظاء) مذكور فی جملة هذه الحروف، و المذكور هو الصاد و الطاء «1».
و الذی یخلص لنا من هذا الاهتمام المتكامل و اشتمال فواتح السور القرآنیة المبدوءة بالحروف الهجائیة علی نصف تقسیمات أصناف الحروف، بل علی أنصاف كل الأصناف علی هذا النحو:
1- نصف الحروف المجهورة.
2- نصف الحروف المهموسة.
3- نصف حروف الحلق.
4- نصف حروف غیر الحلق.
5- نصف الحروف الشدیدة.
6- نصف الحروف المطبقة.
و جمیع هذه الحروف المثبتة فی جدولة الباقلانی لها تمثل نصف حروف المعجم العربی، و هذا التصنیف بعامة یمثل بعدا استقرائیا فی حصر أوائل السور ذات الحروف الهجائیة المقطّعة علی أساس مخارج الصوت اللغوی.
و لا یكتفی الباقلانی بهذه البرمجة حتی یضیف إلیها تصورا صوتیا منظّما، و یعلل ظاهرة استعمال بعض الحروف دون سواها للتأكید علی المناخ الصوتی المتمیز فی وضع الحروف بموقعها المناسب بحسب
______________________________
(1) ظ: للتفصیل، الباقلانی، إعجاز القرآن: 67- 68.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 87
تسلسلها فی النطق مترددة بجهاز النطق من مبتداه إلی منتهاه، و ذلك حینما یبدأ القرآن الكریم ب (الم) فی أول سورة قرآنیة ضمن الترتیب المصحفی و هی سورة البقرة التی استعملت هذه الأصوات متقاطرة، فیعطی التعلیل الصوتی الآتی: «لأن الألف المبدوءة بها هی أقصاها مطلقا، و اللام متوسطة، و المیم متطرفة، لأنها تأخذ فی الشفة، فنبه بذكرها علی غیرها من الحروف، و بیّن أنه إنما أتاهم بكلام منظوم مما یتعارفون من الحروف التی تردد بین هذین الطرفین» «1».
و سیأتی فیما بعد إفادة الزركشی (ت: 794 ه) من هذا المنحنی لهذه الأصوات و توسعه فیه و فی سواه علی أس صوتی مكثف.
و قد أفاض جار اللّه الزمخشری (ت: 538 ه) فی تعقب هذه الوجوه، و ذكر هذه الملاحظ، و أفاد مما أبداه الباقلانی و زاد علیه متوسعا، و فصل ما ذكره مجملا بما نحاول برمجته باختصار علی النحو التالی:
أولا: قال الزمخشری: «اعلم أنك إذا تأملت ما أورده اللّه عزّ سلطانه فی الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامی حروف المعجم أربعة عشر سواء، و هی: الألف و اللام و المیم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الیاء و العین و الطاء و السین و الحاء و القاف و النون فی تسع و عشرین سورة علی عدد حروف المعجم، ثم إذا نظرت فی هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة علی أنصاف أجناس الحروف» «2».
و الملاحظ من هذا النص أن الزمخشری قد جعل أسامی حروف المعجم ثمانیة و عشرین، بینما ینص علی أن عدد حروف المعجم تسعة و عشرون حرفا، مما قد یتصور معه التناقض و عدم الدقة، و لیس الأمر كذلك، لأن الألف اسم یتناول عندهم جزءین من الحروف هما رسما (ا) و (ء) أی المدة و الهمزة، لهذا قالوا الألف إما ساكنة أو متحركة، و الألف الساكنة هی المدة، و الألف المتحركة هی الهمزة، و من ثم بدأ التفریق الدقیق بینهما، فأطلقت (ا) علی الألف اللینة، و أطلقت (ء) علی الهمزة،
______________________________
(1) الباقلانی، إعجاز القرآن: 68- 69.
(2) الزمخشری، الكشاف: 1/ 101.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 88
فنبه بقوله الألف علی هذین الملحظین، و تذرع بقوله:
«الهمزة و الألف حرف واحد عند الفقهاء و حرفان فی عرف العامة» «1». و سواء أ كانا حرفا أم حرفین فإنهما صوتان لا شك فی هذا.
ثانیا: أوضح الزمخشری تبعا للباقلانی أن فی هذه الحروف من المهموسة نصفها و عددها، و من المجهورة نصفها و عددها، و من الشدیدة نصفها و عددها، و من الرخوة نصفها و عدّدها، و من المطبقة نصفها و عددها، و من المنفتحة نصفها و عددها، و من المستعلیة نصفها و عددها، و من المنخفضة نصفها و عددها، و من حروف القلقلة نصفها، و یمكن جدولة هذه الحروف فی منهج الزمخشری علی النحو التالی: «2».
1- الحروف المهموسة: الصاد، الكاف، الهاء، السین، الحاء.
2- الحروف المجهورة: الألف، اللام، المیم، الراء، العین، الطاء، القاف، الباء، النون.
3- الحروف الشدید: الألف، الكاف، الطاء، القاف.
4- الحروف الرخوة: اللام، المیم، الراء، الصاد، الهاء، العین، السین، الحاء، الیاء، النون.
5- الحروف المطبقة: الصاد، الطاء.
6- الحروف المنفتحة: الألف، اللام، المیم، الراء، الكاف، الهاء، العین، السین، الحاء، القاف، الیاء، النون.
7- الحروف المستعلیة: القاف، الصاد، الطاء.
8- الحروف المنخفضة: الألف، اللام، المیم، الراء، الكاف، الهاء، الیاء، العین، السین، الحاء، النون.
9- حروف القلقلة: القاف، الطاء.
______________________________
(1) الزمخشری، الكشاف: 1/ 101.
(2) ظ: المصدر نفسه: 1/ 102 و ما بعدها.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 89
و یلاحظ أن الزمخشری قد استدرك علی الباقلانی فی جدولته لأصناف الحروف الواردة فی فواتح السورة استدرك علیه: الحروف الرخوة، و المنفتحة، و المستعلیة، و المنخفضة، و حروف القلقلة، و لكنها داخلة عند الباقلانی فی جملة حروف الحلق و غیر الحلق، إلا أن الزمخشری، قد وسعها تفصیلا، و ترك الاجمال، و أورد المسمیات.
ثالثا: و بعد هذا التقسیم الدقیق تعقب الزمخشری حكمة هذا التركیب، و غایة هذا الذكر، و فلسفة هذه الأصوات، فقال: «ثم إذا استقریت الكلم و تراكیبها، رأیت الحروف التی ألغی اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكور منها، فسبحان الذی دقت فی كل شی‌ء حكمته. و قد علمت أن معظم الشی‌ء و جله ینزل منزلة كله، و هو المطابق للطائف التنزیل و اختصاراته، فكأن اللّه عزّ اسمه عدد علی العرب الألفاظ التی منها تراكیب كلامهم، إشارة إلی ما ذكرت من التبكیت لهم، و إلزام الحجة إیاهم» «1».
رابعا: و رصد الزمخشری مواطن استعمال هذه الأصوات و كثرتها، بحسب الجاری علی ألسنة العرب فی تكاثر بعض الحروف دون بعض، و عرض لفائدة التكرار فی جملة منها، و تناول مسألة تفریقها علی السور دون جمعها فی أول القرآن، و كأنه یشیر إلی الحكمة المتوخاة من كل جانب فقال: «و مما یدل علی أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها و قوعا فی تراكیب الكلم: أن الألف و اللام لما تكاثر وقوعهما فیها جاءتا فی معظم هذه الفواتح مكررتین، و هی: فواتح سورة البقرة، و آل عمران، و الروم، و العنكبوت، و لقمان و السجدة، و الأعراف، و الرعد، و یونس، و إبراهیم، و هود، و یوسف، و الحجر. فإن قلت: فهلا عددت بأجمعها فی أول القرآن، و ما لها جاءت مفرقة علی السور؟ قلت: لأن إعادة التنبیه علی أن المتحدی به مؤلف منها لا غیر، و تجدیده فی غیر موضع واحد، أوصل إلی الغرض، و أقوله فی الأسماع و القلوب، من أن یفرد ذكره مرة، و كذلك مذهب كل تكریر جاء فی القرآن فمطلوب به تمكین المكرر فی النفوس
______________________________
(1) الزمخشری، الكشاف: 1/ 103.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 90
و تقریره. فإن قلت: فهلا جاءت علی وتیرة واحدة، و لم اختلفت أعداد حروفها؟ قلت: هذا علی عادة افتنانهم فی أسالیب الكلام و تصرفهم فیه علی طرق شتی و مذاهب متنوعة، و كما أن أبنیة كلماتهم علی حرف و حرفین إلی خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك «1».
و وقف بدر الدین الزركشی (ت: 794 ه) عند الصدی الصوتی للحروف المقطعة فی فواتح هذه السور من عدة وجوه صوتیة، یمكن رصد أبعادها بالخطوط الآتیة:
أولا: عرض الزركشی لأعداد هذه الأصوات فی فواتح السور، و وقف عند ما أبتدئ به بثلاثة حروف، و اعتبر لذلك سرا صوتیا بارزا علّله بقوله عن «الم» فی تركیبها: «و ذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا كانت همزة، و هی أول المخارج من أقصی الصدر، و اللام من وسط مخارج الحروف، و هی أشد الحروف اعتمادا علی اللسان، و المیم آخر الحروف، و مخرجها من الفم. و هذه الثلاثة هی أصل مخارج الحروف أعنی الحلق و اللسان و الشفتین، و ترتبت فی التنزیل من البدایة إلی الوسط، إلی النهایة.
فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة، التی یتفرع منها ستة عشر مخرجا، لیصیر منها تسعة و عشرون حرفا، علیها مدار الحلق أجمعین، مع تضمنها سرا عجیبا، و هو أن الألف للبدایة، و اللام للتوسط، و المیم للنهایة، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة علی البدایة و النهایة و الواسطة بینهما» «2».
و هذه الإنارة فی استعمال مصطلحات الصوت فی المخارج إلی الحلق و اللسان و الشفتین یضطلع فیها الزركشی بحسّ صوتی رفیع قد سبق إلیه الخلیل بن أحمد الفراهیدی (ت: 175 ه) و سیبویه (ت: 180 ه) و أبو الفتح عثمان بن جنی (ت: 392 ه) یؤكده الخط الثانی فی تذوقه الحروف، و تأكیده علی مسافتها و مكانها و زمانها.
ثانیا و الزركشی بطلق لفظ الحروف و یرید بذلك الأصوات كما هو
______________________________
(1) الزمخشری، الكشاف: 1/ 104 و ما بعدها.
(2) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 168.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 91
شأن الخلیل فی بدایات العین. و كأن قدماء العرب كانوا ینظرون الحرف و الصوت بمنظار واحد، فیطلقون اسم أحدهما علی الآخر، لا سیما فی إطلاق الحرف و إرادة الصوت، و هذا ما نهجه الزركشی لدی بحثه أسرار صوت الهمزة، و اللام، و المیم من وجه آخر غیر الوجه الصوتی الأول فقال:
«و أیضا من أسرار علم الحروف أن الهمزة من الرئة، فهی أعمق الحروف، و اللام مخرجها من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلی من الفم، فصوتها یملأ ما وراءها من هواء الفم، و المیم مطبقة، لأن مخرجها من الشفتین إذا أطبقا، و یرمز بهن إلی باقی الحروف» «1».
ثالثا: و تعقب الزركشی ملائمة صوت الطاء للسین فی (طس) و مجانسته للهاء فی (طه)، و هو یعمم هذه الملائمة و تلك المجانسة صوتیا علی القرآن فیقول:
«و تأمل اقتران الطاء بالسین و الهاء فی القرآن، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف خمس صفات لم یجمعها غیرها و هی: الجهر، و الشدة، و الاستعلاء، و الإطباق، و الإصمات، و السین: مهموس، رخو، مستفل، صفیر، منفتح، فلا یمكن أن یجمع إلی الطاء حرف یقابلها، كالسین و الهاء، فذكر الحرفین اللذین جمعا صفات الحروف» «2».
و هذا التعقب خالص الصوتیة فی الاستقراء و الاستنتاج معا، فإن ما ذكره اهتمام صوتی لیس غیر، و إن ما عدده من المصطلحات: الجهر، الشدة، الاستعلاء، و الإطباق، و الإصمات، المهموس، الرخو، المستفل، الصفیر، المنفتح، مصطلحات صوتیة فی الصمیم، و هو و إن سبق إلی التسمیة و سبق إلی الضبط، إلا أنه طبقها تنظیرا صوتیا علی فواتح السور.
رابعا، و تنبه الزركشی أیضا إلی اشتمال سورة (ق) علی ذات الحرف، لما فی صوت القاف من القلقلة و الشدة من جهة، و لاشتماله علی
______________________________
(1) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 168.
(2) المصدر نفسه: 1/ 169.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 92
الجهر و الانفتاح من جهة أخری. «و تأمل السورة التی اجتمعت علی الحروف المفردة: كیف تجد السورة مبنیة علی كلمة ذلك الحرف، ممن ذلك ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِیدِ (1) «1» فإن السورة مبنیة علی الكلمات القافیة:
من ذكر القرآن، و من ذكر الخلق، و تكرار القول و مراجعته مرارا، و القرب من ابن آدم، و تلقی الملكین، و قول العتید، و ذكر الرقیب، و ذكر السابق، و القرین، و الإلقاء فی جهنم، و التقدم بالوعد، و ذكر المتقین، و ذكر القلب، و القرآن، و التنقیب فی البلاد، و ذكر القتل مرتین، و تشقق الأرض، و إلقاء الرواسی فیها، و بسوق النخل، و الرزق، و ذكر القوم، و خوف الوعید، و غیر ذلك» «2».
و الحق أننی تتبعت سورة (ق) فوجدت ذكر هذا الحرف قد تكرر بعده أربعا و خمسین مرة فی خمس و أربعین آیة زیادة علی الحرف الاستفتاحی.
فما هذا السر الصوتی لهذا الحرف؟ و ما علاقة تسمیة السورة به من خلال هذا البناء علیه؟ و ما هو موقع القلقلة فی القاف، و الشدة فی صوتها، و الجهر بأدائها، و الانفتاح عند نطقها بهذا التكرار فی شتی الكلمات، مما ذكره الزركشی و مما لم یذكره. الجواب عن هذا و ذاك بعد إدراك العنایة الصوتیة: اللّه أعلم.
خامسا: و أشار الزركشی إلی خصوصیة للدلالة الصوتیة فی سورة (ص) للإبانة بهذا الحرف و صوتیته علی أصداء الخصومات النازلة، و المحاكمات الشدیدة الوقع، بما یتناسب و اصطكاك الصاد فی الجلجلة، و صداها الواقع علی الأذن، و اشتمالها علی ما حدث من مجریات أحادیث السورة نفسها محاكاة فی الأصوات الشدیدة لما نشب من الأحداث الجسیمة، فقال مؤكدا و جهة نظره الصوتیة، فی تذوق الشدة و الوقعة و الخصومة من خلال صوت الصاد، و مصاقبته لما ورد فی السورة ذاتها من إشارات موحیة بذلك.
«و إذا أردت زیادة إیضاح فتأمل ما اشتملت علیه سورة (ص) من
______________________________
(1) سورة ق: 1.
(2) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 169.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 93
الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبی صلی اللّه علیه و آله و سلم و قولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً «1» إلی آخر كلامهم. ثم اختصام الخصمین عند داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلی فی العلم، و هو الدرجات و الكفارات، ثم تخاصم إبلیس و اعتراضه علی ربه و أمره بالسجود، ثم اختصامه ثانیا فی شأن بنیه، و حلفه لیغوینهم أجمعین إلا أهل الإخلاص منهم» «2».
و هكذا نجد الزركشی فی تنبیهاته الصوتیة- سواء أ كان ناقلا لها، أم مجمعا لشتاتها، أم مبرمجا لخططها، أم مبتدعا لبعضها-، یؤكد العمق الصوتی لدی علماء العربیة فی إبراز حقیقة الصوت اللغوی فیما اتسمت به فواتح السور القرآنیة ذات الحروف الهجائیة المقطّعة.
و الحق أن استقرار المراد من هذه الحروف المقطعة- و إن لم تدرك أسراره- لا یخرجها عن حقیقة واقعها الصوتی فی الأسماع، و لا جوهرها الإنصاتی لدی الإطلاق، فهی من جنس أصوات العرب فی لغتهم، و من سنخ حروف معجمهم، و من روح أصداء لغة القرآن العظیم، و لا یمانع هذا الاستقراء علی اختلاف و جهات النظر فیه من شموخ الصوت اللغوی فی أضوائها، و بروز الملحظ الصوتی فی تأویلاتها- توصل إلی الواقع أو لم یتوصل- علی أن السلف الصالح مختلف فی المراد من هذه الحروف المقطعة، أو الأصوات المنطوقة علی قولین:
الأول: ان هذه الحروف فی دلالتها و إرادتها من العلم المستور و السر المحجوب الذی استأثر به اللّه تعالی.
و ادعی الشعبی: أنها من المتشابه، نؤمن بظواهرها، و نكل العلم فیها إلی اللّه عزّ و جل «3».
و
قد روی الشیخ الطوسی (ت: 460 ه) أنها من المتشابه الذی لا یعلم تأویله إلا اللّه
، و اختاره الحسین بن علی المغربی «3».
______________________________
(1) سورة ص: 5.
(2) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 170.
(3) ظ: الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن: 1/ 48.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 94
و
القول أنها من المتشابهات التی استأثر اللّه تعالی بعلمها، و لا یعلم تأویلها إلا هو، هو المروی عن أئمة اهل البیت علیهم السلام فی روایة أهل السنّة «1».
و قد أنكر المتكلمون هذا القول، وردوا هذا الزعم، فقالوا: لا یجوز أن یرد فی كتاب اللّه ما لا یفهمه الخلق لأن اللّه أمر بتدبره، و الاستنباط منه، و ذلك لا یمكن إلا مع الإحاطة بمعناه «2».
بینما أیّده من المتأخرین كل من مالك بن نبی فقال:
«و لسنا نعتقد بإمكان تأویلها إلا إذا ذهبنا إلی أنها مجرد إشارات متفق علیها، أو رموز سریة لموضوع محدد تام التحدید، أدركته سرا ذات واعیة ... «3»
و السید عبد الأعلی الموسوی السبزواری فقال:
«و الحق أنها بحسب المعنی من المتشابهات التی استأثر اللّه تعالی العلم بها لنفسه، فلا یلزم الصاد الفحص عن حقیقتها، و بذل الجهد فی إدراكها و فهمها بل لا بد من إیكال الأمر إلیه تعالی» «4».
الثانی: أن المراد منها معلوم، و لكنهم اختلفوا فیه بعدة آراء تتفاوت قیمة و دلالة و موضوعیة، و قد تداعت كلمات الأعلام فی هذه الآراء حتی نقل الخلف عن السلف، و استند اللاحق إلی السابق بنسبة إلیه و بدون نسبة.
و نحاول فیما یلی أن نعطی كشفا منظّما بأبرز هذه الآراء، و نعقبها بما نأنس به، و نطمئن إلی مؤداه باعتباره جزاء من كلّی فرائدها، دون القطع بأنه مراد اللّه منها، أو القول به «5»
______________________________
(1) ظ: الطبرسی، مجمع البیان فی تفسیر القرآن: 1/ 32.
(2) ظ: الزركشی: البرهان فی علوم القرآن: 1/ 173.
(3) مالك بن بنی: الظاهرة القرآنیة: 312.
(4) السبزواری: مواهب الرحمن فی تفسیر القرآن: 1/ 62.
(5) ظ: للتوفیق بین هذه الآراء و تفاصیلها كلا من:
الطبری، جامع البیان: 1/ 50+ الطوسی، التبیان: 1/ 47+ الطبرسی، مجمع البیان: 1/ 33+ الزمخشری، الكشاف: 1/ 76+ الرازی، مفاتیح الغیب+ ابن الزملكانی، البرهان:
1/ 173+ الزركشی، البرهان+ السیوطی، الاتقان: 3/ 21.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 95
1- اختار ابن عباس: أن كل حرف منها مأخوذ من أسماء اللّه تعالی، و یقاربه ما روی عن السدی و الشعبی أنها: اسم اللّه الأعظم «1».
و لا تعلیق لنا علی هذا الزعم من ناحیتین:
الأولی: أن أسماء اللّه تتداخل بضمنها جمیع الحروف فی المعجم العربی و قد تستقطبها، فلا میزة- و الحالة هذه- لحرف علی حرف.
الثانیة: أننا نجهل اسم اللّه الأعظم لاختلاف الآثار و المرویات فیه، إن صحّ صدور تلك الآثار و المرویات.
2- إن اللّه تعالی أقسم بهذه الحروف علی وجهین:
وجه اختاره ابن عباس و عكرمة: إن هذا القسم بأسمائه لأنها أسماؤه.
و وجه: أن هذا الكتاب الذی یقرؤه محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم: هو الكتاب المنزل لا شك فیه، و ذلك یدل علی جلالة قدر هذه الحروف، إذا كانت مادة البیان. و قد أقسم اللّه: ب (الفجر) و (الطور) و غیرهما، فكذلك شأن هذه الحروف فی القسم بها «1».
و هما احتمالات جائزان یشكل علینا الخوض فیهما.
3- إن هذه الحروف أسماء لسور القرآن الكریم، و روی ذلك عن زید بن أسلم و الحسن البصری «3».
و ذلك أن الأسماء وضعت للتمییز ف (الم) اسم هذه السورة، و (حم) اسم لتلك، و (كهیعص) اسم لغیرهما و هكذا. و قد وضعت هذه الحروف أسماء لتلك السور لتمییزها عن سواها.
و قد نص علی ذلك سیبویه (ت: 180 ه) «4».
______________________________
(1) ظ: الطوسی، التبیان: 1/ 47.
(3) المصدر نفسه: 1/ 47.
(4) ظ: سیبویه: الكتاب: 2/ 30.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 96
و نقله الزمخشری (ت: 538 ه) عن الأكثرین «1» و قال فخر الدین الرازی (ت: 606 ه) بأنه قول أكثر المتكلمین «2».
و هذا الوجه یؤیده مدرك السیرة الاستقرائیة، ففی متعارف أقوال الناس تسمیة هذه السور بهذه الأسماء بحدود معینة، و إذا أطلقت دلت علی مسمیاتها إجمالا.
و قد اختار ذلك الشیخ الطوسی (ت: 460 ه) فقال: «و أحسن الوجوه التی قیلت قول من قال أنها أسماء للسور» «3».
و أیده بهذا الاتجاه أبو علی الطبرسی (ت: 548 ه) «4». و إذا كانت هذه الحروف أسماء لسورها، فلا كبیر أمر من بحث وجوه تسمیتها، فهی قضایا توقیفیة، إن صح الفرض، ثم ألا تلتبس هذه السور فی مسمیاتها بعضها ببعض لا سیما فی المكرر منها، كما هی الحال فی: (حم) و (الر) و (الم) و هكذا، و اللّه العالم.
4- إنها فواتح یفتتح بها القرآن، و قد روی ذلك عن مجاهد بن جبر المكی، و مقاتل بن سلیمان البلخی «5».
و فائدة هذا الاستفتاح علی وجهین:
الأول: أن یعلم ابتداء السورة و انقضاء ما قبلها.
الثانی: أنها تنبیهات، كما هی الحال فی أدوات التنبیه و النداء.
و قد اختار الوجه الثانی شمس الدین الخویّیّ (ت 638 ه) فرأی بأن القول بأنها تنبیهات جید، لأن القرآن كلام عزیز، و فوائده عزیزة، فینبغی أن یرد علی سمع متنبه ... و إنما لم تستعمل الكلمات المشهورة فی التنبیه كألا و أما لأنها من الألفاظ التی یتعارفها الناس فی كلامهم، و القرآن
______________________________
(1) ظ: الزمخشری، الكشاف: 1/ 83.
(2) ظ: الرازی، مفاتیح الغیب نقلا عن الزركشی، البرهان: 1/ 174.
(3) ظ: الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن: 1/ 47.
(4) ظ: الطبرسی، مجمع البیان فی تفسیر القرآن: 1/ 33.
(5) ظ: الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن: 1/ 47.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 97
كلام لا یشبه الكلام، فناسب أن یؤتی فیه بألفاظ تنبیه لم تعهد، لتكون أبلغ فی قرع سمعه «1».
و التنبیه إنما یكون بأصوات تقبل علیها الناس، و یصغی لما بعدها السامعون، إذا المراد صوتیة التنبیه لیس غیر.
و یمیل إلی هذا الرأی كثیر من المعاصرین، و یقطع بعضهم بأن المراد من هذه الحروف- دون شك- هو الافتتاح بها، كما استفتحت العرب بألا الاستفتاحیة و أضرابها «2».
و یجب الالتفات إلا أن ابن عطیة قد عدّ القول بأنها تنبیهات مغایرا للقول بأنها فواتح، و الظاهر عند السیوطی أنه بمعناه. «3»
و یعضد القول بأنها فواتح روایتان أوردهما السید هاشم البحرانی فی تفسیره، أسند أحدهما إلی الإمام علی علیه السلام، و الأخری إلی الإمام جعفر الصادق علیه السلام «4» و إذا ثبتت هاتان الروایتان فالأخذ بمضمونهما هو أولی الوجوه فی استكناه الفوائد المترتبة علیها، أو المعانی المترددة فیها.
5- إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فیه، فأنزل اللّه هذا النظم البدیع لیعجبوا منه، و یكون تعجبهم سببا لاستماعهم، و استماعهم سببا لاستماع ما بعده، فترق القلوب و تلین الأفئدة «5».
و هذا القول كان مظنة لإقبال المستمعین علی القرآن كما تدل علی ذلك وقائع الأحداث عند تلاوة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله و سلم لهذه الفواتح علی قریش، و قد ضعّفه ابن كثیر القرشی (ت: 774 ه) «6».
______________________________
(1) السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 3/ 27.
(2) عبد الجبار حمد شرارة، الحروف المقطعة فی القرآن الكریم: 58- 68.
(3) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 3/ 27.
(4) ظ: هاشم البحرانی، البرهان فی تفسیر القرآن: 1/ 34.
(5) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 175.
(6) ظ: ابن كثیر تفسیر القرآن العظیم: 1/ 36.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 98
و قد انتصر له من المحدثین الأستاذ محمد جمال الهاشمی و ترجمه بمنظور عصری، و أضاف إلیه البعد الرمزی فقال:
«إن القرآن فی أسلوبه البیانی الفذ أراد أن یجذب الأنظار و الأفكار، فافتتح بعض سورة المباركة بهذه الحروف المقطعة فهی أشبه ما تكون بإشارات المحطات العالمیة فی الرادیو حیث تتخذ كل دولة رمزا خاصا لها یدل علی محطة إذاعتها، و یمیز بینها و بین غیرها من المحطات، و هكذا القرآن كان یتخذ من هذه الحروف رمزا مخصوصا لوحیه یستلفت به الأذهان لتستمع إلی آیاته المنزلة بوعی و انتباه، و لا زالت هذه الهزّة الوجدانیة تعتری النابهین من المؤمنین كلما طرقت أسماعهم هذه الحروف الساحرة فی تقاطیعها المطربة، و إنما كان یستعمل هذه الإشارة الحروفیة فی الحالات الخاصة التی تستدعی الاهتمام، كما أنه ربما یباری الإنسانیة بموضوعه من دون تقدمة و تمهید حتی بما التزم به من الاستهلال كجملة:
بسم اللّه الرحمن الرحیم، لأن الموضوع نفسه یستدعی المبادأة و المفاجأة كسورة (براءة)، فالقرآن إنما یجری فی مفاتیح سوره مع الظروف المحیطة بتلك السورة المباركة، و إن للحروف المقطعة من التأثیر ما لا یخفی علی السامع و الواعی» «1».
6- إن هذه الحروف تدعو العرب و تنادیهم إشارة إلی إعجاز القرآن، فهذا القرآن الذی یتلوه علیكم محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم و من جنس كلامكم و سنخ حروفكم، و مما یتكون منه معجمكم ... وَ إِنْ كُنْتُمْ فِی رَیْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلی عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِینَ (23) «2» قال أبو مسلم، محمد بن بحر (ت: 370 ه):
«إن المراد بذلك بأن هذا القرآن الذی عجزتم عن معارضته، و لم تقدروا علی الإتیان بمثله، هو من جنس هذه الحروف التی تتحاورون بها فی كلامكم و خطابكم، فحیث لم تقدروا علیه فاعلموا أنه من فضل اللّه» «3».
______________________________
(1) محمد جمال الهاشمی، من تفسیر القرآن الكریم «بحث».
(2) البقرة: 23.
(3) ظ: الطوسی، التبیان فی تفسیر القرآن: 1/ 48.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 99
و مما یؤیده ما حكی عن الأخفش (ت: 215 ه):
«إن الحروف مبانی كتب اللّه المنزلة بالألسنة المختلفة، و أصول كلام الأمم» «1».
فهی أصل الكلام العربی فی هذا الكتاب العربی المبین الذی أعجز الأولین و الآخرین من العرب و غیر العرب، علی أنه مركب من جنس حروف العرب، و هذا أدل علی الإعجاز باعتباره مشاكلا لكلامهم، و علی سنن تراكیبهم، فعلم بالضرورة أنه كلام اللّه تعالی، و لا یعنی الاعتداد بهذا الملحظ من القول فی جملة الفوائد المترتبة علیه، أن ندع مضامین الأقوال السابقة، و قیمتها الفنیة، فهی جزء لا یتجزأ من غرر الإفادات القیمة فی الموضوع، علی أن القول بالمتشابه هو أسلم الوجوه فیما یخیل إلی، و لكن هذا لا یعنی عدم الكشف عن الأسرار الهامشیة، و النكت الجانبیة التی لا تتعلق بالمتشابه من القول، بل ترجع إلیه بالعائدیة، فیبقی المتشابه متشابها، و المحكم من القرآن محكما، و لا یمنع هذا و ذاك من بیان الحكم المتشابه، و فضل مزایاه، فیبدو فی ظلاله، ألق نستنیر به، أو شعاع نهتدی بأضوائه، فنلمس البعد الصوتی متوافرا فی هذه الحروف، و الرصد الإعجازی قائما فی هیكلها العام و إن بقی السر ماثلا، و المعنی الحقیقی محجوبا، و المراد منها فی علم الغیب، و لكن الحكمة قد تلتمس، و الثمرة قد تقتطف، و قد أورد ابن كثیر (ت: 774 ه) حاكیا: «إنما ذكرت هذه الحروف فی أوائل السور التی ذكرت فیها بیانا لإعجاز القرآن، و إن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التی یتخاطبون بها، و قد حكی هذا المذهب الرازی فی تفسیره عن المبرد و جمع من المحققین، و حكی القرطبی عن الفرّاء و قطرب نحو هذا، و قرّره الزمخشری فی كشافه و نصره أتم نصر، و إلیه ذهب ابن تیمیة و أبو العجاج المزی» «2».
و الذی یظهر مما تقدم أن القول بأن هذه الحروف- فی بعض حكمها- إشارات إعجازیة لیس من ابتكارنا، و لا هو أمر نحن ابتدعناه، و إنما سبق
______________________________
(1) ظ: الطبرسی، مجمع البیان فی تفسیر القرآن: 1/ 33.
(2) ابن كثیر، تفسیر القرآن العظیم: 1/ 36.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 100
إلیه جمع من الأعلام كما رأیت حتی لقد أورده ابن الزملكانی (ت: 651 ه) و اعتبر هذه الحروف كالمهیجة لمن یسمعها من الفصحاء، و الموقظة للهمم الراقدة من البلغاء «1».
و یعضد هذا الرأی أمران:
الأول: أن هذه الحروف الهجائیة فی فواتح السور القرآنیة طالما ورد بعدها ذكر القرآن أو الكتاب معظما مفخما، یتلوه الدلیل علی إعجازه، و الحدیث عن الانتصار له، و الإشارة إلی تحدیه العالم و الأمم و الشعوب و القبائل، مما یؤید حكمة هذه الأصوات لبیان إعجازه و كماله، و حسن نظمه و تألیفه، و سر بقائه و خلوده، كونه نازلا من اللّه، مستقرا فی هذا المصحف الشریف، دون تصحیف أو تحریف، أو زیادة أو نقصان، زیادة فی دوامه، و تعهدا بحفظه و سلامته، بما أكده اللّه تعالی: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) «2».
الثانی: أن المتتبع لأسباب النزول، و الأحداث التی رافقت قرع الأسماع بهذه الأصوات، یجد الإیذاء بها قد تقاطر سیله بأشدّ الظروف قسوة علی الرسالة الإسلامیة، فكان التحدی قائما علی أشدّه بمثل هذه الأصوات المدوّیة فی الآفاق.
فما كان منها فی السور المكیة، و هی الحقبة التی واجهت بها الرسالة عنفا و غطرسة و تكذیبا، فقد جاءت فیه هذه الحروف ردا مفحما فی التحدی الصارخ، و الدلیل الناصح علی صدق المعجزة.
و ما كان منها فی السور المدنیة، فقد جاء تحدیا لأهل الكتاب فیما نصبوه من عداء للدین الجدید، و إنذارا للمنافقین فیما كادوا به محمدا و الذین معه.
إلا أن الملحظ الصوتی الذی نقف عنده للدلالة علی التنبیه علی صوتیة هذه الحروف، مع كونها إشارات إعجازیة فی بعض حكمها، الملحظ هذا: أنها تنطق كنطقك الأصوات، و لا تلفظ كلفظك الحروف، فتقول فی قوله تعالی: ص «صاد» صوتا نطقیا، لا حرفا مرسوما «ص»
______________________________
(1) ابن الزملكانی، البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: 57.
(2) الحجر: 9.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 101
أو «أص» و كذلك فی قوله تعالی: ق فإنك تقول «قاف» لا «ق» و لا «اق» و هكذا فی الحروف الثنائیة كقوله تعالی: طس و فی الحروف الثلاثیة كقوله تعالی: الم و كذلك فی الحروف الرباعیة كقوله تعالی:
المر و كذلك فی الحروف الخماسیة كقوله تعالی: كهیعص (1) فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصواتا، لا بأشكالها الهجائیة رسوما، مما یقرب منها البعد الصوتی المتوخی، بینما كتبت فی المصاحف علی صورة الحروف لا صورة الأصوات.
و قد علل الزركشی (ت: 794 ه) المؤشر الأخیر بالوقوف عند خط المصحف بأشیاء خارجة عن القیاسات التی یبنی علیها علم الخط و الهجاء «ثم ما عاد ذلك بنكیر و لا نقصان لاستقامة اللفظ، و بقاء الحفظ» «1».
و أشار الشیخ الطوسی (ت: 460 ه) إلی جزء من صوتیة هذه الحروف بملحظ الوقف عندها فقال: «و أجمع النحویون علی أن هذه الحروف مبنیة علی الوقف لا تعرب، كما بنی العدد علی الوقف، و لأجل ذلك جاز أن یجمع بین ساكنین، كما جاز ذلك فی العدد» «2».
هذه لمحات صوتیة فی خضم دلالات الحروف المقطعة فی فواتح السور القرآنیة، وقفنا عند الصوت اللغوی فیها، و أشرنا إلی البعد الإعجازی من خلالها، و لیس ذلك كل شی‌ء فی أبعادها، فقد تبقی من المتشابه الذی لا یعلمه إلا اللّه، و خیر الناس من قال فیها بكل تواضع: اللّه أعلم، كما قال ذلك مالك بن بنی فی حدیثه عنها.
«لقد حاول معظم المفسرین أن یصلوا إلی موضوع الآیات المغلقة إلی تفاسیر مختلفة مبهمة، أقل أو أكثر استلهاما للقیمة السحریة التی تخص بها الشعوب البدائیة: الكواكب، و الأرقام و الحروف، و لكن أكثر المفسرین تعقلا و اعتدالا، هم أولئك الذین یقولون فی حال كهذه بكل تواضع: اللّه أعلم» «3».
______________________________
(1) الزركشی، البرهان: 1/ 172.
(2) الطوسی، التبیان: 1/ 50.
(3) مالك بن بنی، الظاهرة القرآنیة: 333.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 102
و فوق هذا و ذاك
قول أمیر المؤمنین الإمام علی علیه السلام فیما ینسب إلیه: «إن لكل كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجی»
و تبقی التأویلات سابحة فی تیارات هذه الحروف المتلاطمة، و التفسیر الحق لها عند اللّه تعالی، و لا یمنع ذلك من كشف سیل الحكم و الإشارات و التوجیهات، و الملامح اللغویة بعامة، أو الصوتیة المتخصصة، أو الإعجازیة بخاصة فی هذه الحروف فهو لیس تفسیرا لها بملحظ أن التفسیر هو الكشف عن مراد اللّه تعالی من قرآنه المجید، بقدر ما هو إشعاع من لمحاتها، و قبس من أضوائها، یسری علی هداه السالكون.
وَ ما أُوتِیتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِیلًا و فَوْقَ كُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ صدق اللّه العظیم
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 103

الفصل الرابع الصوت اللغوی فی الأداء القرآنی‌

اشارة

1- أصول الأداء القرآنی 2- مهمة الوقف فی الأداء القرآنی 3- نصاعة الصوت فی الأداء القرآنی 4- الصوت الأقوی فی الأداء القرآنی 5- توظیف الأداء القرآنی فی الأحكام
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 105

أصول الأداء القرآنی:

لعل أقدم إشارة تدعو إلی التأمل فی أصول الأداء القرآنی، ما
روی عن الإمام علی علیه السلام فی قوله تعالی: وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِیلًا «1».
أنه قال: «الترتیل تجوید الحروف، و معرفة الوقوف» «2».
و فی روایة ابن الجزری أنه قال: «الترتیل معرفة الوقوف، و تجوید الحروف» «3»
و نقف عند هاتین الظاهرتین: معرفة الوقوف، و تجوید الحروف.
الأول: الوقف، قال عبد اللّه بن محمد النكزاوی (ت: 683 ه):
«باب الوقف عظیم القدر جلیل الخطر، لأنه لا یتأتی لأحد معرفة معانی القرآن، و لا استنباط الأدلة الشرعیة منه إلا بمعرفة الفواصل» «4» و هو بیان موضع الوقف عند الاستراحة لغرض الفصل، إذ لا یجوز الفصل بین كلمتین حالة الوصل، فتقف عند اللفظ الذی لا یتعلق ما بعده به، و یحدث غالبا عند آخر حرف من الفاصلة، كما یحدث فی سواه، و قد عرفه السیوطی (ت: 911 ه) تعریفا صوتیا فقال: «الوقف: عبارة عن قطع الصوت عن الكلمة زمنا یتنفس فیه عادة بنیة استئناف القراءة لا بنیة
______________________________
(1) المزمل، 4.
(2) السیوطی: 1/ 230.
(3) ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر.
(4) السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 230.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 106
الإعراض، و یكون فی رءوس الآی و أوساطها، و لا یأتی فی وسط الكلمة، و لا فیما اتصل رسما» «1». و لا یصح الوقف علی المضاف دون المضاف إلیه، و لا المنعوت دون نعته، و لا الرافع دون مرفوعه و عكسه، و لا الناصب دون منصوبه و عكسه، و لا إن أو كان أو ظن و أخواتها دون اسمها، و لا اسمها دون خبرها، و لا المستثنی منه دون الاستثناء، و لا الموصول دون صلته، اسمیا أو حرفیا، و لا الفعل دون مصدره، و لا حرف دون متعلقه، و لا شرط دون جزائه، كما یری ذلك ابن الأنباری «2».
و هذا التوقف عن الوقف قد لا یراد ببعضه التحریم الشرعی، و إنما المراد هو عدم الجواز فی الأداء القرآنی، مما تكون به التلاوة قائمة علی أصولها، و الملحظ الصوتی متكاملا فی التأدیة التامة لأصوات الحروف.
و المقیاس الفنی لذلك: أن الكلام إذا كان متعلقا بما بعده فلا یوقف علیه، و إن لم یكن كذلك فالمختار الوقوف علیه.
و لنأخذ كلمة «نعم» فی موضعین من القرآن فی حالتی الوقوف و عدمه:
أ- قال تعالی: وَ نادی أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَیْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَی الظَّالِمِینَ (44) «3».
فالاختیار الفنی الوقوف الطبیعی عند نعم، لأن ما بعدها غیر متعلق بها، إذ لیس «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ» فی الآیة من قول أهل النار.
ب- و قال تعالی: أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) «4» فالاختیار الأدائی عدم الوقوف عند «نعم» بل وصلها بما بعدها، لتعلقه بما قبلها، و ذلك لأنه من تمام القول و غیر منفصل عنه.
______________________________
(1) السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 244.
(2) المصدر نفسه 1/ 232.
(3) الأعراف: 44.
(4) الصافات: 17- 18.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 107
لذلك فقد عبر الزركشی عن الوقف بأنه «فن جلیل، و به یعرف كیف أداء القرآن، و به تتبین معانی الآیات، و یؤمن الاحتراز عن الوقوع فی المشكلات» «1».
و قد نقل السیوطی: أن للوقف فی كلام العرب أوجها متعددة، و المستعمل منها عند أئمة القراء تسعة: السكون، و الروم، و الإشمام، و الإبدال، و النقل، و الإدغام، و الحذف، و الإثبات، و الإلحاق «2».
و هذه المفردات كلها مصطلحات فنیة تتعلق بالصوت، و تنظر إلی التحكم فیه، أو تعتمد علی إظهار الصوت بقدر معین.
فالسكون: عبارة عن ترك الحركة علی الكلم المحركة وصلا.
و الروم: النطق ببعض الحركة أو تضعیف الصوت بالحركة حتی یذهب أكثرها.
و الإشمام: عبارة عن الإشارة إلی الحركة من غیر تصویب.
و الإبدال: فیما آخره همزة متطرفة بعد حركة أو ألف، فإنه یوقف بإبدالها حرف مدّ من جنس ما قبلها.
و النقل: فیما آخره همزة بعد ساكن، فتنقل حركتها إلیه، فتحرك بهاء ثم تحذف الهمزة.
و الإدغام: فیما آخره همزة بعد یاء أو واو زائدین، فإنه یوقف علیه بالإدغام بعد إبدال الهمزة من جنس ما قبله.
و الحذف: إنما یكون فی الیاءات الزوائد عند من یثبتها وصلا.
و الإثبات: فی الیاءات المحذوفات وصلا عند من یثبتها وقفا.
و الإلحاق: ما یلحق آخر الكلم من هاءات السكت عند من یلحقها.
فی: عم، و فیم، و بم، و مم. و النون المشددة مع جمع الإناث،
______________________________
(1) الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 342.
(2) ظ: السیوطی، و الاتقان: 1/ 248.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 108
نحو: هن و مثلهن. و النون المفتوحة، نحو العالمین، و الدین، و المفلحون، و المشدد المبنی، نحو: «ألا تعلو علی» و «خلقت بیدی»، و «مصرخی» و «یدیّ» «1».
و ستجد فی غضون البحث نماذج قرآنیة كافیة لهذه المؤشرات الصوتیة تطبیقیا، و ذلك فی مواضعها من البحث، و كل بحیث یراد.
و لما كان الوقف هو الأصل فی هذا المبحث، فإن موارده فی الأداء القرآنی متسعة الأطراف، و متعددة الجوانب، و لما كانت الفاصلة القرآنیة تشكل مظهر الوقف العام و المنتشر فی القرآن، فقد سلطنا الضوء الكاشف علی جزئیاتها فی أصول الأداء القرآنی بمختلف صورها، و اعتبرنا ذلك المورد الأساس للأداء بالنسبة للفاصلة فحسب، علی أننا قد خصصنا الفواصل بفصل منفرد بالنسبة للصوت اللغوی، و لمّا كان مبنی الفواصل علی الوقف، و تلك ظاهرة صوتیة فی الأداء، فإننا قد أضفنا إلیها ظاهرة أخری فی رد الأصوات إلی مخارجها، و تنظیم النطق بحسبها فی إحداث الأصوات، و هی ظاهرة ترتیب التلاوة صوتیا، و بذلك اجتمع موردان هما الأصل فی علم الأداء القرآنی الوقف و التجوید منفرین بالمبحثین الآتیین:

مهمة الوقف فی الأداء القرآنی:

یأتی الوقف دون الموصل فی وسط الآیة، و ضمن فقراتها، و عند فواصلها، و لما كان مبنی الفواصل القرآنیة علی الوقف فی مختلف صورها مرفوعة و مجرورة و منصوبة اسما كانت أم فعلا، مفردا أم مثنی أم جمعا، مذكرا و مؤنثا، فإن الوقف فی مجالها متمیز الأبعاد، و متوافر العطاء، فقد عرضنا إلیه فی هذا الحقل للدلالة علیه فیما سواه مضافا إلی ما تقدم فی المبحث السابق، ففیه الغنیة إلی موارده.
شاع فی فواصل الآیات القرآنیة مقابلة المرفوع بالمجرور و بالعكس، و كذا المفتوح و المنصوب غیر المنون، و قارن فیما یأتی: من الآیات، و هی تقف عند السكون صوتا فی غیر الدرج، ة إن كانت فواصلها متعاقبة علی
______________________________
(1) السیوطی، الاتقان: 1/ 249- 250 و قارن فی كتب التجوید.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 109
الرفع و الجر أو الجرّ و الرفع من حیث الموقف الإعرابی، و الرسم الكتابی:
أولا: مقابلة المجرور و المرفوع طردا و انعكاسا و المجرور بالمفتوح:
أ- قال تعالی: لا یَسَّمَّعُونَ إِلَی الْمَلَإِ الْأَعْلی وَ یُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِینٍ لازِبٍ (11) «1».
فالكلمة «جانب» و هی مجرورة فی الفاصلة الأولی تتبعها «واصب» فی الفاصلة الثانیة، و هی مرفوعة. و الكلمة «ثاقب» مرفوعها تتبعها فی الفاصلة التی تلیها «لازب» و هی مجرورة، و قد جاءت الفواصل جمیعها علی نبرة صوتیة واحدة نتیجة الوقف عندها.
ب- قال تعالی: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُیُوناً فَالْتَقَی الْماءُ عَلی أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلی ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13) تَجْرِی بِأَعْیُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) «2».
فالكلمة «منهمر» و هی مجرورة تبعتها فی الفاصلة التی تلیها «قدر» و هی مفتوحة. و الكلمة «دسر» و هی مجرورة تبعتها فی الفاصلة التی تلیها «كفر» و هی مفتوحة، و قد تمت تسویتها الصوتیة علی وتیرة نغمیة واحدة ضمن نظام الوقف فی الفواصل فنطقت ساكنة.
ج- و فی سورة الرعد، ورد اقتران المنون المجرور بالمنصوب، یلیه المجرور غیر المنون، فی قوله تعالی:
وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ هُوَ الَّذِی یُرِیكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ یُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ یُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِیفَتِهِ وَ یُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَیُصِیبُ بِها مَنْ یَشاءُ وَ هُمْ یُجادِلُونَ فِی اللَّهِ وَ هُوَ شَدِیدُ الْمِحالِ (13) «3».
______________________________
(1) الصافات: 8- 11.
(2) القمر: 11- 14.
(3) الرعد: 11- 13.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 110
فالكلمة «وال» منونة و هی مجرورة تبعتها فی الفاصلة التی تلیها «الثقال» و هی مفتوحة منصوبة، تلیها «المحال» و هی مجرورة غیر منونة.
و بدت الآیات فی تراصفها الصوتی مختتمة باللام الساكنة، دون تنوین أو فتح أو كسر بفصیلة الوقف.
ثانیا: و لا تتحكم هذه القاعدة فی الفواصل التی تلتزم حرفا واحدا فی أواخرها، كما فی الأمثلة السابقة بل تتعداها إلی أجزاء أخری من الفواصل، المختلفة الخواتیم، و قارن بین الآیات التالیة الذكر:
أ- ورد اقتران المجرور بالمرفوع المنوّن، و اقتران المرفوع المنون بالمنصوب فی قوله تعالی:
وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِیُضِلُّوا عَنْ سَبِیلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِیرَكُمْ إِلَی النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِیَ الَّذِینَ آمَنُوا یُقِیمُوا الصَّلاةَ وَ یُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِیَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ یَوْمٌ لا بَیْعٌ فِیهِ وَ لا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ، مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِیَ فِی الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) «1».
فالألفاظ: «النار» و هی مجرورة دون تنوین، و «خلال» و هی مرفوعة منونة، و «الأنهار» و هی منصوبة مفتوحة، و قد تلاقت الكسرة و الضمة و الفتحة فی سیاق قرآنی واحد، دون تقاطع النبر الصوتی، أو اختلاف النظام الترتیلی.
ب- و قد جاء التنوین فی حالة الجر إلی جنب الرفع غیر المنون فی فاصلتی قوله تعالی:
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا یَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ یَوْمَ الْقِیامَةِ یَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا یُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِیرٍ (14) یا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَی اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ (15) «2». فالكلمتان «خبیر» و هی مجرورة منونة مختتمة بالراء، تبعتها فی الفاصلة التی تلیها «الحمید» و هی مرفوعة دون
______________________________
(1) إبراهیم: 30- 32.
(2) فاطر: 14- 15.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 111
تنوین مختتمة بالدال، انسجما صوتیا مع اختلاف الفاصلة و الهیأة نتیجة لهذا الوقف الذی قرب من الصوتین.
ثالثا: و لا یقف فضل الوقف علی ما تقدم بل یظهر بمظهر جدید آخر فی تقاطر العبارات و تناسقها، و هی مختلفة فی المواقع الإعرابیة، و كأنها فی حالة إعرابیة واحدة و إن لم تكن كذلك، نتیجة للصوت الواحد فی الوقوف علی السكون فی آخر الفاصلة.
أ- فی سورة المدثر، یقترن المرفوع المنون، بالمجرور المنون، یلیه المنصوب المنون، و لا تحس لذلك فرقا فی سیاق واحد فی قوله تعالی:
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ یُرِیدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ یُؤْتی صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) «1». فالكلمات: «مستنفرة» مرفوعة منونة، تلتها «قسورة» مجرورة منونة، تلتها «منشرة» منصوبة منونة، و لم تنطق صوتیا عند الوقف بكل هذه التفصیلات، بل وقفنا علی الهاء.
ب- و فی سورة القیامة یقترن الاسم المنصوب فی الفاصلة بالظرف مع الاسم المجرور بسیاق واحد متناسق یكاد لا یختلف فی نبر، و لا یختلط فی تنغیم، قال تعالی: بَلی قادِرِینَ عَلی أَنْ نُسَوِّیَ بَنانَهُ (4) بَلْ یُرِیدُ الْإِنْسانُ لِیَفْجُرَ أَمامَهُ (5) یَسْئَلُ أَیَّانَ یَوْمُ الْقِیامَةِ (6) «2».
فالألفاظ: «بنانه» مفعول به منصوب مضاف إلی الهاء، و «أمامه» ظرف مضاف إلی الضمیر، و «القیامة» مجرورة مضاف إلیه. و جاءت الأصوات متقاطرة بالهاء عند الوقف.
أما الوقف فی وسط الآیة، و فی نهایة الجملة، و عند بعض الفقرات من الآیات، فإنه یخضع لقواعد إعرابیة حینا، و تركیبة حینا آخر، و قد أشرنا إلیها فیما سبق، و لا یترتب علیها كبیر أمر فی الأصوات، لهذا كانت الإشارة مغنیة، و كان التفصیل فی الوقف عند الفواصل لارتباطه بالصوت اللغوی.
______________________________
(1) المدثر: 50- 52.
(2) القیامة: 4- 6.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 112

نصاعة الصوت فی الأداء القرآنی:

و نرید بالنصاعة إخراج الصوت واضحا لا یلتبس به غیره من أصوات العربیة، و إعطاء الحرف حقه من النطق المحقق غیر مشتبه بسواه، و هذا جوهر الأداء، و قد سماه القدامی بعلم التجوید، و لعل تسمیة علم الأداء القرآنی ب «التجوید» ناظرة إلی قول الإمام علی علیه السلام المتقدم:
«الترتیل معرفة الوقوف، و تجوید الحروف» «1»
فأخذ عنه هذا المصطلح بإعطاء الحروف حقوقها و ترتیبها، ورد الحرف إلی مخرجه و أصله، و تلطیف النطق به علی كمال هیئته، من غیر إسراف و لا تعسف، و لا إفراط و لا تكلف» «2».
و هذه القاعدة تبنی علی مخارج الحروف صوتیا، و قد تقدم أنها سبعة عشر مخرجا عند الخلیل، و ستة عشر مخرجا عند تابعیه، بإسقاط مخرج الحروف الجوفیة.
و مخرج الحرف للتصویت به دون لیس، أفاده ابن الجزری (ت:
833 ه) فی تعریفه له من الخلیل عملیا، یقول: «و اختیار مخرج الحرف محققا أن تلفظ بهمزة الوصل و تأتی بالحرف بعده ساكنا أو مشددا، و هو أبین، ملاحظا فیه صفات ذلك الحرف» «3».
فتقول فی الباء و التاء و الثاء «ابّ، اتّ، اثّ» و هكذا بقیة الحروف، فتتحكم الذائقة الصوتیة فی نطق الحروف علی أساس منها كبیر، و الدلیل علی ذلك تقسیم الحروف علی أساس مخارجها عند علماء الأداء القرآنی تبعا لعلماء اللغة، فكل حیّز ینطلق منه الصوت یشكل مخرجا فی أجهزة النطق، و ذلك عند اندفاع الأصوات إلی الخارج من مخارج الحلق و مدارجه.
و قد أورد السیوطی (911 ه)، ملخصا فی مخارج الأصوات استند فیه إلی ابن الجزری (ت: 833 ه) و كان ابن الجزری ذكیا فی جدولته للأصوات من مخارجها، إذ- فاد من كل ما سبقه، و نظمه جامعا تلك
______________________________
(1) ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر.
(2) السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 281.
(3) ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر: 1/ 198.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 113
الإفادات، و هی لیست له إلا فی إضافات من هنا و هناك، استند إلی ترتیب الخلیل (ت: 175 ه) و برمجة سیبویه (ت: 180 ه) و ذائقة ابن جنی (ت:
392 ه).
و لا ضیر فی ذكر مخارجه مع الجزئیات المضافة لا علی الأصل فهو واحد، بل فی تحسین العرض، و ضبط حیثیات المخارج علی النحو الآتی:
الأول: الجوف، للألف و الواو و الیاء الساكنین بعد حركة تجانسهما.
الثانی: أقصی الحلق، للهمزة و الیاء.
(الثالث: وسطه، للعین و الحاء المهملتین.
الرابع: أدنی الحلق للفم، للغین و الخاء.
الخامس: أقصی اللسان مما یلی الحلق و ما فوقه من الحنك للقاف.
السادس: أقصاه من أسفل مخرج القاف قلیلا، و ما یلیه من الحنك.
السابع: وسطه، بینه و بین وسط الحنك، للجیم و الشین و الیاء.
الثامن: للضاد المعجمة، من أول حافة اللسان، و ما یلیه من الأضرس من الجانب الأیسر، و قیل: الأیمن.
التاسع: اللام من حافة اللسان من أدناها إلی منتهی طرفه، و ما بینها و بین ما یلیها من الحنك الأعلی.
العاشر: للنون من طرفه، أسفل اللام قلیلا.
الحادی عشر: للراء من مخرج النون، لكنها أدخل فی ظهر اللسان.
الثانی عشر: للطاء و الدال و التاء من طرف اللسان و أصول الثنایا العلیا مصعدا إلی جهة الحنك الثالث عشر: لحروف الصفیر: الصاد و السین و الزای، من بین طرف اللسان، و فویق الثنایا السفلی.
الرابع عشر: للظاء و الثاء و الذال، من بین طرفه و أطراف الثنایا العلیا
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 114
الخامس عشر: للفاء، من باطن الشفة السفلی و أطراف الثنایا العلیا.
السادس عشر: للباء و المیم و الواو غیر المدیّة بین الشفتین.
السابع عشر: الخیشوم للغنة فی الادغام و النون أو و المیم الساكنة «1».
لقد اتسم تشخیص هذه المخارج بالدقة، و تعیین المواضع بما یقرّه علم التشریح حدیثا، من حیث الضبط لجزئیات المدارج، فهی تتلاءم تماما مع معطیات هذا العلم بعد مروره بتجارب الأجهزة المختبریة، و نتائج جراحة مخارج الأصوات ضمن معادلات دقیقة لا تخطئ.
و لا یكتفی ابن الجزری فی هذا العرض حتی یضیف إلیه مفصلا صوتیا فی خصائص الحروف، و ملامح الأصوات، و سمات الاشتراك و الانفراد فی المخارج و الصفات.
یقول ابن الجزری (ت: 833 ه) فالهمزة و الهاء اشتركا مخرجا و انفتاحا و استفالا، و انفردت الهمزة بالجهر و الشدة، و العین و الحاء اشتركا كذلك، و انفردت الحاء بالهمس و الرخاوة الخالصة، و الغین و الخاء اشتركا مخرجا و رخاة و استعلاء و انفتاحا و انفردت الغین بالجهر، و الجیم و الشین و الیاء اشتركت مخرجا و انفتاحا و استفالا، و انفردت الجیم بالشدة، و اشتركت مع الیاء فی الجهر، و انفردت الشین بالهمس و التفشی، و اشتركت مع الیاء فی الرخاوة، و الضاد و الظاء اشتركا صفة و جهرا و رخاوة و استعلاء، و إطباقا، و افترقا مخرجا، و انفردت الضاد بالاستطالة، و الطاء و الدال و التاء اشتركت مخرجا و شدة، و انفردت الطاء بالإطباق و الاستعلاء، و اشتركت مع الدال فی الجهر، و انفردت التاء بالهمس، و اشتركت مع الدال فی الانفتاح و الاستفال، و الظاء و الذال و الثاء اشتركت مخرجا و رخاوة، و انفردت الظاء بالاستعلاء و الأطباق، و اشتركت مع الذال فی الجهر، و انفردت الثاء بالهمس، و اشتركت مع الذال انفتاحا و استفالا، و الصاد و الزای و السین اشتركت مخرجا و رخاوة و صفیرا، و انفردت الصاد
______________________________
(1) انظر السیوطی، الاتقان: 1/ 283 و انظر مصدره.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 115
بالإطباق و الاستعلاء، و اشتركت مع السین فی الهمس، و انفردت الزای بالجهر، و اشتركت مع السین فی الانفتاح و الاستفال. فإذا أحكم القارئ النطق بكل حرف علی حدته موفّی حقه، فلیعمل نفسه بأحكامه حالة التركیب لأنه ینشأ عن التركیب ما لم یكن حالة الإفراد، بحسب ما یجاورها من مجانس و مقارب، و قوی و ضعیف، و مفخّم و مرقق، فیجذب القوی الضعیف، و یغلب المفخّم المرقق، و یصعب علی اللسان النطق بذلك علی حقه، إلا بالریاضة الشدیدة، فمن أحكم صحة التلفظ حالة التركیب، حصل حقیقة التجوید» «1».
حقا لقد أعطی ابن الجزری مواطن تنفیذ الأداء القرآنی علی الوجه الأكمل بما حدده من خصائص كل حرف فی المعجم، و ما لخصه من دراسة صوتیة لمواضع الأصوات و مدارجها فی الانفتاح و الاستفال، و الجهر و الهمس، و الشدة و الرخاوة، و التفشی و الاستطالة یساعد علی تفهم الحیاة الصوتیة فی عصره، و لا یكتفی بهذا حتی یربطها بعلم الأداء فی حالة تركیب الحروف، و تجانس الأصوات قوة و ضعفا.
بقی القول أن علم الأداء القرآنی یرتبط بالأصوات فی عدة ملاحظ كالوقف و قد تقدم، و الإدغام و سیأتی، و نشیر هنا إلی ملحظین هما الترقیق و التفخیم، فالترقیق مرتبط بحروف الاستفال (الحروف المستفلة) لأنها مرققة جمیعا. و التفخیم مرتبط بحروف الاستعلاء (الحروف المستعلیة) لأنها مفخمة جمیعا، و قد سبقت الإشارة فی موضعها إلی الامالة و الاشمام.
و ما قدمناه- عادة- قد یصلح مادة أساسیة للاستدلال علی صلاحیة الرأی القائل بأن علم الأداء القرآنی فی قسیمیه الأساسیین: عبارة عن جزء مهم من كلی الصوت اللغوی فی القرآن، لارتباطه بعلم الأصوات ارتباطا متماسكیا لا یمكن التخلی عنه، فهو ناظر إلی مخارج الحروف و تجویدها، و المخارج بأصنافها تشكل مخططا تفصیلیا لأجهزة الصوت، و كل حرف ینطلق من حیزه صوتا له مكانه و زمانه، ساحته و مسافته.
______________________________
(1) ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر: 1/ 214.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 116

الصوت الأقوی فی الأداء القرآنی:

فی الأداء القرآنی یحدث أن یحتل صوت مكان صوت، أو یدغم صوت فی صوت، فیشكلان صوتا واحدا، و یكون الصوت المنطوق هو الأقوی فی الإبانة و الإظهار، و هو الواضح فی التعبیر، حینئذ یكون المنطوق حرفا، و المكتوب حرفین، و المعول علیه ما یتلفظ به أداء، و ینطق بجوهره صوتا، ذلك ما یتحقق بعده الصوتی فی ظاهرة الادغام.
إن رصد هذه الظاهرة أصواتیا فی التنظیر القرآنی مهمة جدا لمقاربتها من ظاهرة «المماثلة» عند الأصواتیین.
الادغام عند النحاة: أن تصل حرفا ساكنا بحرف مثله متحرك من غیر أن تفصل بینهما بحركة أو وقف فیصیر اتصالهما كحرف واحد «1».
و عند علماء القراءات: هو اللفظ بحرفین حرفا كالثانی مشددا، و ینقسم إلی كبیر و صغیر، فالكبیر ما كان أول الحرفین متحركا، سواء كانا مثلین أم جنسین، أم متقاربین، و سمی كبیرا لكثرة وقوعه، و وجهه: طلب التحقیق.
و الادغام الصغیر: ما كان الحرف الأول فیه ساكنا، و هو واجب و ممتنع و جائز، و الذی جرت عادة القراء بذكره هو الجائز «2».
و الادغام عند الأصواتیین العرب عرفه ابن جنی (ت: 392 ه) بأنه:
«تقریب صوت من صوت» «3».
و هو عنده: إما تقریب متحرك من متحرك، فهو الادغام الأصغر، و هو تقریب الحرف من الحرف، و إدناؤه منه من غیر ادغام یكون هناك.
و إما تقریب ساكن من متحرك فهو الادغام الأكبر لأن الصوت الأول شدید الممازجة للثانی، لأنك إنما أسكنت المتحرك لتخلطه بالثانی و تمازجه به. «4»
______________________________
(1) ظ: ابن یعیش، المفصل: 10/ 121.
(2) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 263 و 267.
(3) ظ: ابن جنی، الخصائص: 2/ 139.
(4) ظ: المصدر نفسه: 2/ 140.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 117
و نقف عند قول ابن جنی وقفة قصیرة لتحدید الصوت الأقوی.
فتقریب الحرف من الحرف یحصل من غیر إدغام فلا حدیث لنا معه، و إنما یعنینا الحدیث عن الادغام و هو ما یتحقق بالأكبر دون الأصغر، و یحدث بتقریب الساكن من المتحرك. لهذا فسیكون حدیثنا متأطرا بالادغام الأكبر دون سواه فیما بعد.
و التقریب الذی تحدث عنه ابن جنی هو عین المماثلة عند الأصواتیین المحدثین، لأن المماثلة عبارة عن عملیة استبدال صوت بآخر تحت تأثیر صوت ثالث قریب منه فی الكلمة أو فی الجملة كما یعرفها جونز «1».
و المماثلة نوعان: رجعیة و تقدمیة، و ذلك بحسب كونها من الأمام إلی الخلف، أو من الخلف إلی الأمام.
و النوع الأول هو الأكثر شیوعا من الآخر مع أن كلا منهما یمكن أن یحدث فی لغة واحدة «2».
و المماثلة الرجعیة تنجم من تأثر الصوت الأول بالثانی فی صیغة افتعل فی نحو (اذتكر) حینما تتفانی الذال و التاء، و یندكان تماما لیحل محلهما الدال مشددا، فتكون (ادكر) فی مثل قوله تعالی:
وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (45) «3» فقد تلاشی الصوت الأول و هو الذال فی الصوت الثانی و هو التاء، و عادت التاء دالا لقرب المخرج مع تشدیدها لتدل علی الاثنین معا، و هذا هو تطبیق المماثلة فی الادغام.
«و تتخذ المماثلة صورة تقدمیة فیما ینطقه بعض الناس للفظة (اجتمع) ب (اجدمع) فالتاء قد جاورت الجیم مجاورة مباشرة، ففقد صوت التاء صفته كمهموس، لیصبح مجهورا فی صورة نظیره الدال» «4».
______________________________
(1) ظ: خلیل العطیة، فی البحث الصوتی عند العرب: 71 و انظر مصدره.
(2) ظ: إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 126.
(3) یوسف: 45.
(4) إبراهیم أنیس، الأصوات اللغویة: 128.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 118
و الذی یتضح من هذا أن الصوت القوی هو الذی یحتل مساحة النطق بدل الصوت الضعیف، نتیجة الملائمة الصوتیة فی الأكثر مجاورة و احتكاكا، بینما علل «موریس جرامونت» ظاهرة المماثلة بالتفسیر العضوی المرتبط بجهاز النطق فیقول: «أما الوجه الذی تتم به الظاهرة فهو ذو طابع خارجی لا یعتمد علی جوهر الصوت، فإذا ما تحدثنا عنه من الوجهة النفسیة العضویة لم نجد للمماثلة الرجعیة من تعلیل سوی إسراع بحركات النطق عن مواضعها، و بأن المماثلة التقدمیة التزام هذه الحركات و الجمود علیها ... و مع ذلك فهذه التفرقة ثانویة، أما الشی‌ء الأساسی فهو أن هناك صوتا یسیطر علی صوت آخر، و أن الحركة تتم فی اتجاه أو فی آخر ما إذا كان الصوت المسیطر موجودا فی الأمام أو فی الخلف. و لا شك أن الصوت المؤثر هو ذلك الذی تتوفر فیه صفات: أن یكون أكثر قوة، و أكثر مقاومة، أو أكثر استقرارا، أو أكثر امتیازا، و إنما تتحد هذه الصفات سلفا طبقا لنظام اللغة، و علی ذلك یمكن التنبؤ بالوجه الذی تتم علیه ظاهرة المماثلة، الأمر الذی یستبعد معه هوی المتكلم، و لتبسیط الأمر یمكننا أن نحدد القضیة كلها فی كلمة واحدة هی (القوة). فالمماثلة تخضع لقانون واحد هو قانون: (الأقوی). و لیست المماثلة و نقیضها المخالفة هما اللذان یخضعان و حدهما له، تخضع له جمیع الظواهر التی یكون فیها تغیر الأصوات ناشئا عن وجود صوت آخر «1».
و هذا یدل علی أن مقاومة ما تحدث بین الأصوات فی المماثلة، فیحل الأقوی بدل القوی، و یتغلب علیه فیصوت به دونه.
و علی هذا فالإدغام عند العرب فی نوعیه هو الأصل فی المماثلة عند الأوروبیین، إذ یتغلب صوت أولی علی صوت ثانوی، فالصوت الأولی هو الأقوی، لأنه المتمكن المسیطر علی النطق، و أحیانا یحل محلهما معا صوت ثالث مجاور یمثل الصوتین السابقین بعد فنائهما، و تلاشی أصدائهما كما فی الابدال.
و كان أبو عمرو بن العلاء (ت: 154 ه) من أبرز القائلین به فی
______________________________
(1) عبد الصبور شاهین، أثر القراءات فی الأصوات: 233 و انظر مصدره.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 119
القرآن الكریم و إلیه ینسب القول المشهور:
«الإدغام كلام العرب الذی یجری علی ألسنتها و لا یحسنون غیره» «1».
و قد قال ابن الجزری عن عدد ما أدغمه أبو عمرو فی القرآن: «جمیع ما أدغمه أبو عمرو من المثلین و المتقاربین، ألف حرف و ثلاثمائة و أربعة أحرف» «2». الصوت اللغوی فی القرآن 119 الصوت الأقوی فی الأداء القرآنی: ..... ص : 116
و الحق أن أبا عمرو بن العلاء قد توسع فی الادغام حتی أنكروا علیه إدغامه الراء عند اللام فی قوله تعالی:
یَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ یُؤَخِّرْكُمْ إِلی أَجَلٍ مُسَمًّی إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا یُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) «3» [إذ قرأها یغفلكم].
قال الزجاج: إنه خطأ فاحش، و لا تدغم الراء فی اللام إذا قلت:
«مر لی» بكذا، لأن الراء حرف مكرر، و لا یدغم الزائد فی الناقص للإخلال به، فأما اللام فیجوز إدغامه فی الراء، و لو أدغمت اللام فی الراء لزم التكریر من الراء. و هذا إجماع النحویین «4».
و قال أبو عمرو بن العلاء بالادغام الكبیر لشموله نوعی المثلین و الجنسین و المتقاربین، و یعنی بالمثلین ما اتفقا مخرجا و صفة، و المتجانسین ما اتفقا مخرجا و اختلفا صفة، و بالمتقاربین ما تقاربا مخرجا و صفة «5».
و عمد القراء رضوان اللّه علیهم إلی جعل الحروف المدغمة علی نوعین من التقسیم «6».
الأول: الحروف التی تدغم فی أمثالها، و اصطلحوا علیه المدغم من
______________________________
(1) ابن الجزری، النشر فی القراءات العشر: 1/ 275.
(2) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 266.
(3) نوح: 4.
(4) ظ: الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 322.
(5) ظ: السیوطی، الاتقان: 1/ 263 و ما بعدها، و أنظر مصدره.
(6) قارون فی هذا بین الجزری، النشر: 1/ 280 و ما بعدها السیوطی، الاتقان: 1/ 264 و ما بعدها ابن یعیش، المفصل: 10/ 150 و ما بعدها.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 120
الأول: الحروف التی تدغم فی أمثالها، و اصطلحوا علیه المدغم من المتماثلین.
الثانی: الحروف التی تدغم فی مجانسها و مقاربها، و اصطلحوا علیه المدغم من المتجانسین و المتقاربین.
و النوع الأول یضم سبعة عشر حرفا، و الثانی یضم ستة عشر حرفا، و سنورد اسم الحرف مع تنظیره القرآنی.
أولا: الادغام بین المتماثلین:
1- الباء: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ «1».
2- التاء: و تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (16) «2».
و أما إذا كانت التاء: تاء ضمیر فلا تدغم كقوله تعالی: یا لَیْتَنِی كُنْتُ تُراباً «3».
3- الثاء: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: وَ اقْتُلُوهُمْ حَیْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ «4».
و من أبرز مصادیقه وضوحا قوله تعالی: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِینَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ یَنْتَهُوا عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ (73) «5» 4- الحاء: تدغم فی مثلها فی نماذج كثیرة من القرآن كنحو قوله
______________________________
(1) البقرة: 213.
(2) البقرة: 16.
(3) النبأ: 40.
(4) النساء: 91.
(5) المائدة: 73.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 121
تعالی: وَ إِذْ قالَ مُوسی لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّی أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَیْنِ أَوْ أَمْضِیَ حُقُباً (60) «1».
5- الراء: و تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِی أُنْزِلَ فِیهِ الْقُرْآنُ «2».
6- السین: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: وَ تَرَی النَّاسَ سُكاری وَ ما هُمْ بِسُكاری وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِیدٌ «3».
7- العین: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: مَنْ ذَا الَّذِی یَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «4».
8- الغین: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: وَ مَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الْإِسْلامِ دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِی الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِینَ (85) «5».
9- الفاء: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: أَ لَمْ تَرَ كَیْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِیلِ (1) «6».
10- القاف: و تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِیَ لِلَّذِینَ آمَنُوا «7» 11- الكاف: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِیراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِیِّ وَ الْإِبْكارِ (41) «8».
12- اللام: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِی ضَلالٍ مُبِینٍ «9».
13- المیم: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِیمَ مُصَلًّی «10».
______________________________
(1) الكهف: 60.
(2) البقرة: 185.
(3) الحج: 2.
(4) البقرة: 255.
(5) آل عمران: 85.
(6) الفیل: 1.
(7) الأعراف: 32.
(8) آل عمران: 41.
(9) الجمعة: 2.
(10) البقرة: 125.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 122
14- النون: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
وَ اللَّاتِی تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِی الْمَضاجِعِ «1».
15- الواو: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ (199) «2».
16- الهاء: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی:
ذلِكَ الْكِتابُ لا رَیْبَ فِیهِ هُدیً لِلْمُتَّقِینَ (2) «3».
17- الیاء: تدغم فی مثلها فی نحو قوله تعالی: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّیْنا صالِحاً وَ الَّذِینَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْیِ یَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِیُّ الْعَزِیزُ (66) «4».
و قد لاحظنا أن للادغام عدة شروط یصح معها:
1- إسكان الأول المتحرك قبل إدغامه و تحرك الثانی.
2- أن یلتقی المثلان فی الرسم فلا یفصل بینهما حرف.
3- أن یكون المثلان مركبین من كلمتین، فإن التقیا من كلمة واحدة فلا إدغام إلا فی حرفین (مناسككم) فی البقرة، و (سلككم) فی المدثر.
و عندی أنهما مركبان من كلمتین، فالمناسك كلمة، و الضمیر لجمع المخاطب كلمة أخری، و سلك كلمة، و الضمیر لجمع المخاطب كلمة أخری، فجری القیاس علی أصوله، فهما من الأصل دون الاستثناء المشار إلیه.
4- أن لا یكون الأول تاء ضمیر المتكلم أو خطابا، فلا یدغم حینئذ كقوله تعالی: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا یَعْقِلُونَ «5».
______________________________
(1) النساء: 34.
(2) الأعراف: 199.
(3) البقرة: 2.
(4) هود: 66.
(5) یونس: 42.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 123
5- أن لا یكون الأول مشددا، فلا یدغم فی نحو قوله تعالی: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) «1».
6- أن لا یكون الأول مشددا فلا یدغم فی نحو قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ «2».
ثانیا: الادغام فی المتجانسین و المتقاربین و له شروط:
أ- أن لا یكون الحرف الأول مشددا كقوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً «3».
ب- أن لا یكون منونا كقوله تعالی: فِی ظُلُماتٍ ثَلاثٍ «4».
ج- أن لا یكون تاء ضمیر كقوله تعالی: خَلَقْتَ طِیناً «5».
و قد ظهر من الاستقراء القرآنی أن هذا الادغام وارد فی ستة عشر حرفا، و هی من ضم بعضها إلی بعض، تمثل الحالات التفصیلیة الآتیة:
1- الباء: و تدغم فی المیم كقوله تعالی: یُعَذِّبُ مَنْ یَشاءُ «6».
2- التاء: و تدغم فی عشرة أحرف سواها هی:
أولا: التاء فی الثاء فی نحو قوله تعالی: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَیِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِیراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِی الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ «7».
ثانیا: التاء فی الجیم كقوله تعالی: لَیْسَ عَلَی الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِیما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَ
______________________________
(1) القمر: 48.
(2) وردت لأول مرة فی المصحف بسورة البقرة: 173.
(3) البقرة: 200.
(4) الزمر: 6.
(5) الإسراء: 61.
(6) العنكبوت: 21.
(7) المائدة: 32.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 124
اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ یُحِبُّ الْمُحْسِنِینَ (93) «1».
ثالثا: التاء فی الذال كقوله تعالی: فَالتَّالِیاتِ ذِكْراً (3) «2».
رابعا: التاء فی الزای كقوله تعالی: فَالزَّاجِراتِ زَجْراً «3».
خامسا: التاء فی السین كقوله تعالی: وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ «4».
سادسا: التاء فی الشین كقوله تعالی: لَوْ لا جاؤُ عَلَیْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ (13) «5».
سابعا: التاء فی الصاد كقوله تعالی: وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) «6».
ثامنا: التاء فی الضاد كقوله تعالی: وَ الْعادِیاتِ ضَبْحاً (1) «7».
تاسعا: التاء فی الطاء فی نحو قوله تعالی: الَّذِینَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَیِّبِینَ یَقُولُونَ سَلامٌ عَلَیْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) «8».
عاشرا: التاء فی الظاء: الَّذِینَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ (28) «9».
3- التاء: و تدغم فی خمسة أحرف سواها هی:
أولا: الثاء فی التاء كقوله تعالی: أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِیثِ تَعْجَبُونَ (59) «10».
ثانیا: الثاء فی الذال كقوله تعالی: زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِینَ وَ الْقَناطِیرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَیْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَیاةِ الدُّنْیا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) «11».
ثالثا: الثاء فی السین كقوله تعالی: وَ وَرِثَ سُلَیْمانُ داوُدَ «12».
______________________________
(1) المائدة: 93.
(2) الصافات: 3.
(3) الصافات: 2.
(4) النساء: 122.
(5) النور: 13.
(6) الصافات: 1.
(7) العادیات: 1.
(8) النحل: 32.
(9) النحل: 28.
(10) النجم: 59.
(11) آل عمران: 14.
(12) النمل: 16.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 125
رابعا: الثاء فی الشین كقوله تعالی: انْطَلِقُوا إِلی ظِلٍّ ذِی ثَلاثِ شُعَبٍ (30) «1».
خامسا: الثاء فی الضاد كقوله تعالی: هَلْ أَتاكَ حَدِیثُ ضَیْفِ إِبْراهِیمَ الْمُكْرَمِینَ (24) «2».
4- الجیم و تدغم فی حرفین متقاربین هما:
أولا: الجیم فی التاء فی نحو قوله تعالی: مِنَ اللَّهِ ذِی الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَیْهِ فِی یَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِینَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) «3».
ثانیا: الجیم فی الشین فی نحو قوله تعالی: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ «4».
5- الحاء و تدغم فی موضع واحد و هو قوله تعالی: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ «5».
6- الدال، و تدغم الدال ما لم تفتح بعد ساكن فی عشرة أحرف إلا مع التاء فینتفی الشرط للتجانس، و هی:
أولا: الدال فی التاء فی نحو قوله تعالی: تَكادُ تَمَیَّزُ مِنَ الْغَیْظِ «6».
ثانیا: الدال فی الثاء فی نحو قوله تعالی: مَنْ كانَ یُرِیدُ ثَوابَ الدُّنْیا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِیعاً بَصِیراً (13) «7».
ثالثا: الدال فی الجیم فی نحو قوله تعالی: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ «8».
رابعا: الدال فی الذال فی نحو قوله تعالی: فَمَنِ اعْتَدی بَعْدَ ذلِكَ «9».
خامسا: الدال فی الزای فی نحو قوله تعالی: تُرِیدُ زِینَةَ الْحَیاةِ الدُّنْیا «10».
______________________________
(1) المرسلات: 30.
(2) الذاریات: 24.
(3) المعارج: 3- 4.
(4) الفتح: 39.
(5) آل عمران: 185.
(6) الملك: 8.
(7) النساء: 134.
(8) البقرة: 251.
(9) المائدة: 94.
(10) الكهف: 28.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 126
سادسا: الدال فی السین فی نحو قوله تعالی: إِنَّما صَنَعُوا كَیْدُ ساحِرٍ «1».
سابعا: الدال فی الشین فی نحو قوله تعالی: قالَ هِیَ راوَدَتْنِی عَنْ نَفْسِی وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِیصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِینَ (26) «2».
ثامنا: الدال فی الصاد فی نحو قوله تعالی: فِی مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِیكٍ مُقْتَدِرٍ (55) «3».
تاسعا: الدال فی الضاد فی نحو قوله تعالی: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ «4».
عاشرا: الدال فی الظاء فی نحو قوله تعالی: وَ مَا اللَّهُ یُرِیدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «5».
7- و تدغم الذال فی حرفین هما السین و الصاد:
أولا: الذال فی السین فی نحو قوله تعالی: فَاتَّخَذَ سَبِیلَهُ فِی الْبَحْرِ سَرَباً «6».
ثانیا: الذال فی الصاد فی نحو قوله تعالی: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً «7».
8- و تدغم الراء فی اللام ما لم تفتح بعد ساكن فی نحو قوله تعالی: أَ یَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِیلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِیها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّیَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِیهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ یُبَیِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآیاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) «8».
______________________________
(1) طه: 69.
(2) یوسف: 26.
(3) القمر: 55.
(4) فصلت: 50.
(5) المؤمن- غافر: 31.
(6) الكهف: 61.
(7) الجن: 3.
(8) البقرة: 266.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 127
9- و تدغم السین فی حرفین هما: الزای و السین:
أولا: السین فی الزای فی نحو قوله تعالی: وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) «1».
ثانیا: السین فی الشین فی نحو قوله تعالی: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَیْباً «2».
10- و تدغم الشین فی السین فی نحو قوله تعالی: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما یَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلی ذِی الْعَرْشِ سَبِیلًا (42) «3».
11- و تدغم الضاد فی الشین فی نحو قوله تعالی: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِیمٌ (62) «4».
12- و تدغم القاف فی الكاف علی أن یتحرك ما قبل القاف فی نحو قوله تعالی: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَیْ‌ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلی كُلِّ شَیْ‌ءٍ وَكِیلٌ (102) «5».
13- و تدغم الكاف فی القاف إذا تحرك ما قبل الكاف فی نحو قوله تعالی: قَدْ نَری تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِی السَّماءِ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِینَ أُوتُوا الْكِتابَ لَیَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا یَعْمَلُونَ (144) «6».
14- و تدغم اللام فی الراء إذا تحرك ما قبلها فی نحو قوله تعالی:
قالُوا یا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ یَصِلُوا إِلَیْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّیْلِ وَ لا یَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِیبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَیْسَ الصُّبْحُ بِقَرِیبٍ (81) «7».
- إلا لام قال فإنها تدغم حیث وقعت قبل الراء كقوله تعالی: قالَ
______________________________
(1) التكویر: 7.
(2) مریم: 4.
(3) الإسراء: 42.
(4) النور: 62.
(5) الأنعام: 102.
(6) البقرة: 144.
(7) هود: 81.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 128
رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ هَبْ لِی مُلْكاً لا یَنْبَغِی لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِی إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) «1».
15- و تدغم المیم فی الباء، و الأصح صناعة أنها تخفی بالباء لأنها تسكن عند الباء إذا تحرك ما قبلها فتخفی بغنة، لأن المیم لا تلغی الباء و لا تحل محلها فتعود مشددة، بل تبقی المیم فی غنة أنفیة، و هذا هو الاخفاء كما فی قوله تعالی: لِكَیْ لا یَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَیْئاً «2».
16- و تدغم النون فی حرفین هما الراء و اللام علی أن یتحرك ما قبل النون:
أولا: النون فی الراء فی نحو قوله تعالی: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّی «3».
ثانیا: النون فی اللام فی نحو قوله تعالی: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّی تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ یَنْبُوعاً (90) «4».
و قد ظهر مما تقدم رصد النتائج الصوتیة التالیة:
1- إن الحروف التی تدغم فی أمثالها، و عددها سبعة عشر حرفا، هی: ب. ت. ث. ح. ر. س. ع. غ. ف. ق. ك. ل. م. ن. و.
ی. ه.
2- إن الحروف التی تدغم فی المتجانسین و المتقاربین دون المتماثلین- و عددها ستة عشر حرفا- هی: ب. ت. ث. ج. ح. د. ذ.
ر. س. ش. ض. ق. ك. ل. م. ن.
3- إن الحروف التی تدغم و یدعم فیها- و عددها ثمانیة عشر حرفا- هی: ب. ت. ث. ج. د. ذ. ر. س. ش. ف. ص. ض. ظ. ط.
ك. ل. م. ن.
و قد خلص لنا مما تقدم بیانه فی الادغام رصد الضوابط و القواعد الصوتیة الآتیة:
1- إن كل حرفین التقیا أولهما ساكن، و هما متماثلان أو متجانسان
______________________________
(1) ص: 35.
(2) النحل: 70.
(3) الإسراء: 100.
(4) الإسراء: 90.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 129
فیجب فیهما إدغام الأول عند علماء القراءة:
أ- فی المتماثلین كقوله تعالی: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (16) «1».
ب- فی المتجانسین كقوله تعالی: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ «2».
2- إن الطاء إذا جاورت التاء أدغم الطاء وجوبا مع بقاء الأطباق كقوله تعالی: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَیَّ یَدَكَ لِتَقْتُلَنِی ما أَنَا بِباسِطٍ یَدِیَ إِلَیْكَ لِأَقْتُلَكَ «3».
3- إن الاخفاء قد یختلط بالادغام فی حالة واحدة منظورة فی اللسان العربی، و الحالة هی: إخفاء المیم بالباء، فیعده بعضهم فی الادغام، و یعده بعضهم فی الاخفاء، و هو الصحیح فیما یبدو لی، لأن المیم غیر متلاشیة فی نحو قوله تعالی: أَ لَیْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِینَ «4».
فإن سكن ما قبلها أظهرت دون إخفاء أو إدغام، كما فی قوله تعالی:
وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِیمَ بِالْبُشْری «5».
هذا فی الإدغام الكبیر.
أما الإدغام الصغیر فالجائز منه:
1- إدغام حرف من كلمة فی حروف متعددة من كلمات متفرقة و تقتصر عند القراء علی ما یأتی:
إذ/ قد/ تاء التأنیث/ هل/ بل.
2- إدغام حروف قربت مخارجها، و هی سبعة عشر حرفا اختلف فیها عند القراء، و قد استوعبها السیوطی فی بحثه عنها «6».
و الحق أن الادغام الصغیر لا یعنینا صوتیا، لأن فك الادغام فیه أو عنه یعنی تكرار الحرف لیس غیر، و لا یفك إدغامه فی السیاق الجملی بل
______________________________
(1) البقرة: 16.
(2) آل عمران: 122.
(3) المائدة: 28.
(4) الأنعام: 53.
(5) العنكبوت: 31.
(6) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 268.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 130
عند تصریف الكلمة أو عند بیان صیغتها التفعیلیة و هذا ما لا یحدث عند النطق فی العبارة، فیبقی الحرف فی الواقع صوتا واحدا و إن كان مشددا كما فی قد. هل. بل من الأدوات، و قل. سل. عد. من الأفعال. لهذه الأسباب العلمیة استبعدنا الخوض عن الادغام الصغیر فی هذا البحث.
نعم ألحق القراء فی هذا المبحث أحكام النون الساكنة و التنوین من وجه لأن لهما أربعة أحكام هی:
الإظهار. الإدغام. الإقلاب. و الإخفاء.
و لما كانت هذه الأحكام الأربعة تتحكم فی إخراج الصوت و حدوثه ضمن حیثیته المؤشرة، فحسن منا التنبیه علیها، و الإشارة إلیها فی حدود الصوت اللغوی دون التفصیلات الأخری.
فالاظهار عند ستة أحرف، و هی حروف الحلق:
الهمزة، الهاء، العین، الحاء الغین الخاء.
و بعضهم یخفی عند الخاء و الغین.
و الإدغام عند ستة أحرف، حرفان بلا غنّة، و هما اللام و الراء، و أربعة بغنة، و هی: النون، و المیم، و الیاء، و الواو. و الإقلاب عند حرف واحد، و هو الباء بقلب النون میما فی نحو قوله تعالی: قالَ یا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ (33) «1». و یقلب التنوین میما فی نحو قوله تعالی: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْیٌ فَهُمْ لا یَرْجِعُونَ (18) «2». و الاخفاء یكون عند بقیة حروف المعجم العربی، و هو حالة بین الادغام و الاظهار، و لا بد من الغنة معه «3».
و فی هذا الضوء فإن النون الساكنة تخفی فی خمسة عشر موضعا عند خمسة عشر حرفا من القرآن الكریم، فلا تدغم نهائیا، و لا تظهر بجوهرها، و إنما هی حالة بین حالتین، و منزلة بین منزلتین، كما فی الكشف الآتی، لنماذج من الآیات القرآنیة بحسب الأصوات.
______________________________
(1) البقرة: 33.
(2) البقرة: 18.
(3) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 1/ 270.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 131
1- التاء، و تخفی النون عندها فی قوله تعالی: كُنْتُمْ خَیْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1».
2- الثاء، و تخفی النون عندها فی نحو قوله تعالی: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً (25) «2».
3- الجیم ... فی نحو قوله تعالی: قُلْ أَ رَأَیْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَیْكُمُ اللَّیْلَ سَرْمَداً «3».
4- الدال ... فی نحو قوله تعالی: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) «4».
5- الذال ... فی نحو قوله تعالی: وَ سَواءٌ عَلَیْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ «5».
6- الزای ... فی نحو قوله تعالی: ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ «6».
7- السین فی نحو قوله تعالی: لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ یَوْمَ الْقِیامَةِ (47) «7».
8- الشین فی نحو قوله تعالی: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلی رَبِّهِ سَبِیلًا (19) «8».
9- الصاد فی نحو قوله تعالی: وَ لا یَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (2) «9».
10- الضاد فی نحو قوله تعالی: وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما یَضِلُّ عَلَیْها «10».
11- الطاء فی نحو قوله تعالی: هُوَ الَّذِی خَلَقَكُمْ مِنْ طِینٍ ثُمَّ قَضی أَجَلًا «11».
12- الظاء فی نحو قوله تعالی: وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِیرٍ «12».
______________________________
(1) آل عمران: 110.
(2) البقرة: 25.
(3) القصص: 71.
(4) مریم: 91.
(5) یس: 10.
(6) إبراهیم: 44.
(7) الزمر: 47.
(8) الإنسان: 29.
(9) المائدة: 2.
(10) یونس: 108.
(11) الأنعام: 2.
(12) سبأ: 22.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 132
13- الفاء فی نحو قوله تعالی: ثُمَّ قَضی أَجَلًا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1» 14- القاف فی نحو قوله تعالی: مِنْ ظَهِیرٍ مِنْ قَرارٍ «2».
15- الكاف فی نحو قوله تعالی: وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ «3».
و التنوین كذلك فإنه یخفی فی خمسة عشر موضعا عند خمسة عشر حرفا من القرآن، و هی الحروف المتقدمة نفسها:
1- التاء، و یخفی التنوین عندها فی نحو قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (11) «4».
2- الثاء، فی نحو قوله تعالی: من فضله علیك قَوْلًا ثَقِیلًا (5) «5».
3- الجیم، فی نحو قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا (49) «6».
4- الدال، فی نحو قوله تعالی: عَلَیْكَ قَوْلًا ثَقِیلًا (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33) وَ كَأْساً دِهاقاً (34) «7».
5- الذال، فی نحو قوله تعالی: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِی وَكِیلًا (2) هُوَ الَّذِی خَلَقَكُمْ مِنْ طِینٍ ثُمَّ قَضی أَجَلًا (3) «8».
6- الزای، فی نحو قوله تعالی: قَضی أَجَلًا «9».
7- السین، فی نحو قوله تعالی: ضرب الله الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِی مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ (29) «10».
______________________________
(1) النساء: 37.
(2) إبراهیم: 26.
(3) الشوری: 15.
(4) البروج: 11.
(5) المزمل: 5.
(6) الإسراء: 49.
(7) النبأ: 31- 34.
(8) الإسراء: 2- 3.
(9) الكهف: 40.
(10) الزمر: 29.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 133
8- الشین، فی نحو قوله تعالی: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ «1».
9- الصاد، فی نحو قوله تعالی: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) «2».
10- الضاد، فی نحو قوله تعالی: وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ «3».
11- الطاء، فی نحو قوله تعالی: فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً (43) «4».
12- الظاء، فی نحو قوله تعالی: لَهُمْ فِیها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِیلًا «5».
13- الفاء، فی نحو قوله تعالی: و من یقتل مؤمنا متعمدا فجزائه جهنم خلدا و غضب الله غلیه و لعنه و اعد له عذابا عظیما «6» 14- القاف، فی نحو قوله تعالی: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِیبٌ «7».
15- الكاف، فی نحو قوله تعالی: إِنِّی أُلْقِیَ إِلَیَّ كِتابٌ كَرِیمٌ (29) «8».
و هكذا نجد الإخفاء متحكما فی النون الساكنة و التنوین.

توظیف الأداء القرآنی فی الأحكام:

اشارة

كان أداء القرآن علی الوجه العربی الصحیح، و فی ضوء أصول التلاوة المعتبرة موضوعا للأحكام الشرعیة المتعلقة باعتبار قراء الفاتحة- مثلا- فرضا واجبا فی كل صلاة سواء أ كانت فریضة أم نافلة، و ذلك فی الأولیتین من الركعات، و یجب فی خصوص الفریضة قراءة سورة كاملة- علی الأحوط- بعدها.
كان هذا الاعتبار الشرعی منطلقا للأحكام الدقیقة الصادرة من الفقهاء بوجوب القراءة الصحیحة فیما یتلی من القرآن فی الصلاة، و ذلك بأداء الحروف و إخراجها من مخارجها علی النحو اللازم فی لغة العرب، بأن
______________________________
(1) الشوری: 23.
(2) المرسلات: 33.
(3) الفرقان: 39.
(4) النساء: 43+ المائدة: 6.
(5) النساء: 57.
(6) النساء: 93.
(7) الصف: 13.
(8) النمل: 29.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 134
و المد الواجب، و أمثال هذا، فإن أخلّ بشی‌ء من ذلك بطلت القراءة. حتی أن من لا یحسن القراءة بأصولها وجب علیه تعلمها، و إن كان متمكنا من الائتمام، و قیل: لا وجه لوجوبه مع التمكن من الصلاة الصحیحة بالائتمام.
هذه العنایة فی أمر القراءة مؤداة علی الوجه العربی الأمثل كانت مناطا لأحكام أدائیة موضوعة للوجوب و عدمه تارة، و للاحتیاط الشرعی بشقیه الوجوبی و الاستحبابی تارة، و للجواز و عدمه تارة أخری.
و كانت هذه الملاحظ الدقیقة مظنة لإبداء الحكم الشرعی بتلك الصور المختلفة، و میدانا جدیدا للفقهاء فی رصد حیاة الصوت اللغوی فی مهمة الفرائض الدینیة.
إن متابعة هذا الموضوع من أدلته التفصیلیة فی الشریعة الإسلامیة، قد یخرج البحث من موضوعیته، و أحاول- قدر المستطاع- إعطاء أبرز الأحكام الشرعیة المتعلقة بهذا الأمر- فیما یأتی- بمضمونها الفتوائی دون أدلتها التفصیلیة، و ذلك من خلال الرجوع لأمهات المصادر فی الموضوع، و التوفیق بینها عند أغلبیة المذاهب «1».

أولا:

فی الملحظ الصوتی للكلمة الواحدة فی القراءة القرآنیة عند الصلاة تتبلور الأحكام الصوتیة الآتیة:
1- تجب الموالاة بین حروف الكلمة بالمقدار الذی یتوقف علیه صدق الكلمة، فإذا فاتت المولاة- سهوا- بطلت الكلمة، و إذا كان ذلك عمدا بطلت الصلاة. و ذلك حتی فی (أل) التعریف، إذ تجب المولاة بینها و بین مدخولها ممّا یعد جزء الكلمة عند العرب.
______________________________
(1) ظ: العروة الوثقی مستمسك العروة الوثقی مهذب الأحكام كتاب الأم للشافعی، باب القراءة: 1/ 107+ كتاب المحلی لابن حزم كتاب الصلاة المجلد الثالث. و قارن بین آراء الفقهاء فیما سبق.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 135
2- فی حالة حصول فصل بین حروف كلمة واحدة اختیارا أو اضطرارا بحیث خرجت عن صدق تلك الكلمة علیها بطلت، و مع العمد أبطلت هذا إذا كان من الأول قاصدا لذلك.
3- إذا أعرب آخر الكلمة بقصد الوصل بما بعده فانقطع نفسه، فحصل الوقف بالحركة، فالأحوط إعادتها، و إن لم یكن الفصل كثیرا اكتفی بها.
4- إذا شك فی حركة كلمة أو مخرج حروفها لا یجوز أن یقرأ بالوجهین: فیما إذا لم یصدق علی الآخر أنه ذكر و لو غلطا، و لو اختار أحد الوجهین جازت القراءة علیه، فإذا انكشف أنه مطابق للواقع لم یعد الصلاة، و إلا أعادها.
5- إذا اعتقد كون الكلمة علی وجه خاص من الأعراب، أو البناء، 5- إذا اعتقد كون الكلمة علی وجه خاص من الاعراب، أو البناء، أو مخرج الحرف، فعلی مده علی ذلك الوجه، ثم تبین أنه غلط، فالظاهر الصحة، و الأحوط الاعادة أو القضاء، و إن كان الأقوی عدم الوجوب.
6- إذا لم یدر إعراب الكلمة، أو بناءها، أو بعض حروفها، أنه الصاد- مثلا- أو السین، أو نحو ذلك، یجب علیه أن یتعلم، و لا یجوز له أن یكررها بالوجهین لأن الغلط من الوجهین ملحق بكلام الآدمیین، و فی إطلاقه منع ظاهر.
7- یجب أن یعلم حركة آخر الكلمة إذا أراد أن یقرأها بالوصل بما بعدها، مثلا إذا أراد أن لا یقف علی (العالمین) و یصلها بقوله (الرحمن الرحیم) یجب أن یعلم أن النون مفتوح و هكذا، نعم إذا كان یقف علی كل آیة لا یجب علیه أن یعلم حركة آخر الكلمة.

ثانیا:

و فی الملحظ الصوتی عند كون الكلمتین أو الأكثر بنفس واحد دون فصل أو وقوف تتبین الأحكام الصوتیة الآتیة فی القراءة القرآنیة عند الصلاة.
1- تجب الموالاة بین الجار و المجرور، و الأحوط الموالاة بین
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 136
المضاف و المضاف إلیه، و المبتدأ و خبره، و الفعل و فاعله، و الشرط و جزائه، و الموصوف و صفته، و المجرور و متعلقه. و نحو ذلك مما له هیئة خاصة علی نحو لا یجوز الفصل فیه بالأجنبی، فإذا فاتت سهوا أعاد القراءة. و إذا فاتت عمدا، فالأحوط وجوبا الإتمام و الاستئناف.
2- إذا انقطع نفسه فی مثل (الصراط المستقیم) بعد الوصل بالألف و اللام و حذف الألف، هل یجب إعادة الألف و اللام بأن یقول (المستقیم) أو یكفی قول: مستقیم؟ الأحوط الأول، و أحوط منه إعادة الصراط أیضا، و كذا إذا صار مدخول الألف و اللام غلطا، فإذا أراد أن یعیده فالأحوط أن یعید الألف و اللام أیضا، بأن یقول المستقیم، و لا یكتفی بقوله: مستقیم، و كذا إذا لم یصح المضاف إلیه فالأحوط إعادة المضاف، فإذا لم یصح لفظ المغضوب فالأحوط أن یعید لفظ (غیر) أیضا.
3- ینبغی للمصلی أن یمیز بین الكلمات، و لا یقرأ بحیث یتولد بین الكلمتین كلمة مهملة، كما إذا قرأ (الحمد للّه)، و وقف علی الحم، و لم یكملها بالدال، و خلط من لفظ الجلالة الحرفین الأولین فتولدت كلمة (دلل)، و هكذا فی (للّه رب) فتولدت كلمة (هرب)، أو بأخذ الكاف من (مالك) فیدمجها مع (یو) من (یوم) فتتولد كلمة (كیو) و هكذا فی بقیة الكلمات بالنسبة لفاتحة الكتاب، و هذا معنی قولهم: إن فی الحمد سبع كلمات مهملات و هی:
دلل، هرب، كیو، كنع، كنس، تع، بع.

ثالثا:

و فی إحكام مخرج الصوت و نطقه، فی الكلمات و الحروف و الحركات، و الاعراب و البناء، و مظاهر الأداء تعتمد الأحكام الصوتیة الآتیة:
1- لو أدخل بشی‌ء من الكلمات أو الحروف أو بدل حرفا بحرف حتی الضاد بالظاء أو العكس بطلت القراءة، و كذا لو أخل بحركة بناء، أو إعراب، أو مدّ واجب، أو تشدید، أو سكون لازم، و كذا لو أخرج حرفا
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 137
من غیر مخرجه بحیث یخرج عن صدق ذلك الحرف فی عرف العرب، فالقراءة باطلة.
2- لا یجب علی المكلف أن یعرف مخارج الحروف علی طبق ما ذكره علماء التجوید، بل یكفی إخراجها منها، و إن لم یلتفت إلیها، بل لا یلزم إخراج الحرف من تلك المخارج بل المدار صدق التلفظ بذلك الحرف، و إن خرج من غیر المخرج الذی عینوه. مثلا إذا نطق بالضاد أو الظاء علی القاعدة لكن لا بما ذكروه من وجوب جعل طرف اللسان من الجانب الأیمن أو الأیسر علی الأضراس العلیا صح، فالمناط الصدق فی عرف العرب، و هكذا فی سائر الحروف.
3- إذا شك فی حركة كلمة، أو مخرج حروفها، لا یجوز أن یقرأ بالوجهین، مع فرض العلم ببطلان أحدهما، بل مع الشك أیضا، لكن لو اختار أحد الوجهین مع البناء علی إعادة الصلاة لو كان الوجه المختار باطلا فلا بأس بذلك.

رابعا:

و فی الالتزام بمعطیات علماء الأداء القرآنی، و أئمة النحو العربی، لإظهار أصول الأصوات الإحداث، تعتمد عند القراءة فی الصلاة الأحكام الآتیة:
1- یجب حذف همزة الوصل فی الدرج مثل همزة: اللّه، الرحمن، الرحیم، اهدنا، و نحو ذلك فی الفاتحة، فإذا أثبتها بطلت القراءة، و كذا یجب إثبات همزة القطع فی: إیاك، أنعمت، فلو حذفها حین الوصل بطلت القراءة.
2- الأحوط وجوبا عند الفقهاء، ترك الوقوف بالحركة، و الوصل بالسكون.
3- المد الواجب هو فیما إذا كان بعد حروف المد- و هی الواو المضمون ما قبلها، و الیاء المكسور ما قبلها، و الألف المفتوح ما قبلها، همزة مثل: جاء، و سوء، و جی‌ء، أو كان بعد أحدها سكون لازم خصوصا
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 138
إذا كان مدغما فی حرف آخر مثل: الضالین.
و وجوب المد فی الموارد الثلاثة الأولی مبنی علی الاحتیاط.
4- إذا مدّ فی مقام وجوب المد أو فی غیره، أزید من المتعارف لا یبطل القراءة، إذا إذا خرجت الكلمة عن كونها تلك الكلمة.
5- یكفی فی المد مقدار ألفین، و الظاهر كفایة أداء الحرف علی الوجه الصحیح، و إن كان المد بأقل من ذلك، و أكمله إلی أربع ألفات، و لا یضرب الزائد ما لم یخرج الكلمة عن الصدق.
6- لا یجب ما ذكر علماء التجوید من المحسنات: كالإمالة، و الإشباع، و التفخیم و الترقیق و نحو ذلك، بل و الإدغام إلا فیما سنذكره بعد هذا، و إن كانت متابعتهم أحسن.

خامسا:

و فی مراعاة أصول الادغام لا سیما الادغام الكبیر، و اختلاس الأصوات و إبدالها، و قراءة القرآن بخصوصه، تعتمد الأحكام الآتیة:
1- فی ورود (أل التعریف) المركبة من الألف و اللام یجب إدغام اللام فی أربعة عشر صوتا هی:
التاء، الثاء، الدال، الذال، الراء، الزای، السین، الشین، الصاد، الضاد، الطاء، الظاء، اللام، النون، و اظهارها فی بقیة حروف المعجم.
فتدغمها مثلا فی كل من: اللّه، الرحمن، الرحیم، الصراط، الضالین.
تظهیرها فی كل من: الحمد، العالمین، المستقیم، المغضوب.
2- الادغام فی مثل: مدّ و ردّ، مما اجتمع فی كلمة واحدة منه مثلان: واجب سواء أ كانا متحركین كالفعلین المذكورین، أو ساكنین كمصدرهما: مدا و ردّا.
3- الأحوط الادغام إذا كان بعد النون الساكنة أو التنوین أحد حروف یرملون، مع الغنة فیما عد اللام و الراء، و لا معها فیهما، لكن الأقوی عدم وجوبه، فهو حینئذ احتیاط استحبابی.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 139
4- الأحوط الادغام فی مثل (اذهب بكتابی) و (یدرككم) مما اجتمع المثلان منه فی كلمتین مع كون الأول ساكنا، لكن الأقوی عدم وجوبه.
5- ینبغی مراعاة ما ذكره علماء الأداء القرآنی، من إظهار التنوین، و النون الساكنة، إذا كان بعدها أحد حروف الحلق، و قلبهما فیما إذا كان بعدهما حرف الباء، و إدغامهما إذا كان بعدهما أحد حروف (یرملون)، و إخفاؤهما إذا كان بعدهما بقیة الحروف، و لكن لا یجب شی‌ء من ذلك.
6- یجوز فی قوله تعالی: إِیَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِیَّاكَ نَسْتَعِینُ (5) القراءة بإشباع كسر الهمزة و بلا إشباعه.
7- الأحوط القراءة بإحدی القراءات السبع، و إن كان الأقوی عدم وجوبها، بل یكفی القراءة علی النهج العربی، و إن كان الواجب هو قراءة القرآن كما نزل، لا ما تصدق علیه القراءة العربیة، و إن كان الأقوی جواز القراءة بجمیع القراءات التی كانت متداولة فی زمان الأئمة علیه السلام، نعم الظاهر جواز الاكتفاء بكل قراءة متعارفة عند الناس و لو كانت من غیر القراءات السبع.
و هناك مستحبان شرعیان نختتم بهما هذا المبحث:
الأول: یستحب تحسین الصوت بلا غناء فی القراءة.
الثانی: یستحب الوقف علی فواصل الآیات فی القراءة.
و أخیرا، فإن الدربة علی أصول الأصوات فی مثل هذه الأحكام، مما تسهل و تضبط و تیسر سلامة الأداء القرآنی صوتیا.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 141

الفصل الخامس الصوت اللغوی فی فواصل الآیات القرآنیة

اشارة

1- مصطلح الفاصلة فی القرآن 2- معرفة فواصل القرآن صوتیا 3- ظواهر الملحظ الصوتی فی فواصل الآیات 4- الإیقاع الصوتی فی موسیقی الفواصل
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 143

مصطلح الفاصلة فی القرآن:

الفاصلة فی القرآن الكریم: آخر كلمة فی الآیة، كالقافیة فی الشعر، و قرینة السجع فی النشر، خلافا لأبی عمرو الدانی (ت: 444 ه) الذی اعتبرها كلمة آخر الجملة «1». إذ قد تشتمل الآیة الواحدة علی عدة جمل، و لیست كلمة آخر الجملة فاصلة لها، بل الفاصلة آخر كلمة فی الآیة، لیعرف بعدها بدء الآیة الجدیدة بتمام الآیة السابقة لها.
قال القاضی أبو بكر الباقلانی (ت: 403 ه): «الفواصل حروف متشاكلة فی المقاطع، یقع بها إفهام المعانی» «2».
و تقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسین الكلام بها، و هی الطریقة التی یباین القرآن بها سائر الكلام، و تسمّی فواصل، لأنه ینفصل عندها الكلامان، و ذلك أن آخر الآیة فصل بینها و بین ما بعدها.
و قد تكون هذه التسمیة اقتباسا من قوله تعالی: كِتابٌ فُصِّلَتْ آیاتُهُ «3». و لا یجوز تسمیتها قوافی إجماعا، لأن اللّه لما سلب عن القرآن اسم الشعر وجب سلب القافیة عنه أیضا لأنها منه، و خاصة فی الاصطلاح «4».
______________________________
(1) ظ: الزركشی، البرهان فی علوم القرآن: 1/ 53.
(2) المصدر نفسه: 1/ 54.
(3) هود: 1.
(4) ظ: السیوطی، الاتقان فی علوم القرآن: 3/ 292.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 144
و ما ورد فی القرآن متناسق حروف الروی و الایقاع، موحد خاتمة الفاصلة بالصوت، و یقف فیه بالآیة علی الحرف الذی وقف عنده فی الآیة التی قبلها، فلا یسمی سجعا عند علماء الصناعة «و لو كان القرآن سجعا لكان غیر خارج عن أسالیب كلامهم، و لو كان داخلا فیها لم یقع بذلك إعجاز، و لو جاز أن یقال: هو سجع معجز، لجاز أن یقولوا: شعر معجز، و كیف و السجع مما كان تألفه الكهّان من العرب، و نفیه من القرآن أجدر بأن یكون حجة من نفی الشعر، لأن الكهانة تنافی النبوّات بخلاف الشعر» «1».
إذن لم یسموها أسجاعا، و لم یصطلحوا علیها قوافی، إذ استبعدوا تسمیتها بالقوافی تكریما للقرآن بأن یقاس علی منظوم كلام البشر، و ستأتی معالجة هذا الرأی فیما بعد، و أما تجنب تسمیتها سجعا «فلأن أصله من سجع الطیر، فشرف القرآن أن یستعار لشی‌ء فیه لفظ هو أصل فی صوت الطّائر، و لأجل تشریفه عن مشاركة غیره من الكلام الحادث فی اسم السجع الواقع فی كلام آحاد الناس» «2».
و المدرك الأول یساعد علیه مقتضی تفسیر اللغة، و أصول إرجاع المصطلحات إلی قواعدها الأولی، قال ابن درید (ت: 321 ه): «سجعت الحمامة معناه: رددت صوتها» «3».
و المدرك الثانی یساعد علیه الاعتبار العام، و تبادر الذهن فی الفهم، فقد شاع السجع بین العرب فی الجاهلیة، و اقتسمه كل من الخطباء و الكهان و المتنبئین، و توازن استعماله متفرقا بین أصناف من الناس.
یبدو مما سلف أن مما تواضع علیه جهابذة الفن، و أئمة علوم القرآن، یضاف إلیهما علماء اللغة، هو: أن نهایة بیت الشعر تسمی قافیة، و نهایة جملة النثر تسمی سجعا فی الأسجاع، و نهایة الآیة تسمی فاصلة.
و هذا التفریق الدقیق قائم علی أساس یجب أن نتخذه أصلا، و برنامج
______________________________
(1) السیوطی، الاتقان: 3/ 293.
(2) الزركشی، البرهان: 1/ 54.
(3) السیوطی، الاتقان، 3/ 293.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 145
ینبغی القول به دون سواه، و هو أن الكلام العربی- مطلقا- علی ثلاثة أنواع:
قرآن، نثر، شعر، فلیس القرآن نثرا و إن استعمل جمیع أسالیب النثر عند العرب، و لیس القرآن شعرا و إن اشتمل علی جمیع بحور الشعر العربی حتی ما تداركه الأخفش علی الخلیل فسمی متداركا، و هو الخبب، بل هو قرآن و كفی إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِیمٌ (77) فِی كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) «1».
قال الجاحظ (ت: 255 ه): «و قد سمی اللّه كتابه المنزل قرآنا، و هذا الاسم لم یكن حتی كان» «2».
و إذا تم هذا فهو كلام اللّه تعالی وحده، و أنی یقاس كلام البشر بكلام اللّه، هو إذن ممیز حتی فی التسمیة عن كلام العرب تشریفا له، و اعتدادا به، و إن وافق صور الكلام العربی، و جری علی سننه فی جملة من الأبعاد، كما یقال عند البعض، أو كما یتوهم، بأن ختام فواصله المتوافقة هی من السجع، فالتحقیق یقتضی الفصل بین الأمرین، لأن مجی‌ء كثیر من الآیات علی صورة السجع لا توجب كونه هو، أو أنها منه «لأنه قد یكون الكلام علی مقال السجع و إن لم یكن سجعا، لأن السجع من الكلام، یتبع المعنی فیه اللفظ الذی یؤدی السجع، و لیس كذلك مما هو فی معنی السجع من القرآن، لأن اللفظ وقع فیه تابعا للمعنی، و فرق بین أن یكون المعنی منتظما دون اللفظ، و بین أن ینتظم الكلام فی نفسه بألفاظه التی تؤدی المعنی المقصود فیه، و متی ارتبط المعنی بالسّجع كان إفادة السّجع كإفادة غیره و متی انتظم المعنی بنفسه دون السجع مستجلبا لتحسین الكلام دون تصحیح المعنی» «3».
و قد رأینا عند تعقب هذه الظاهرة: أن التعبیر المسجوع فی القرآن لا تفرضه طبیعة النسق القرآنی فحسب كما یخیل للكثیرین عند النظر فی مثل قوله تعالی: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّی زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) «4». بدلیل أنه
______________________________
(1) الواقعة 77- 78.
(2) الجاحظ، الحیوان: 1/ 348.
(3) الزركشی، البرهان: 1/ 56.
(4) التكاثر: 1- 2.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 146
ینتقل منه فورا إلی نسق آخر فی فاصلة تقف عند النون دون التفات إلی الصیغة الأولی الساربة فی طریقها البیانی كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) «1». فإذا جاز للقرآن الانتقال بها، جاز له الانتقال فیما قبلها كما هو ظاهر، بل أن هذا اللفظ «المقابر» یفرض نفسه فرضا بیانیا قاطعا، دون حاجة إلی النظر فی الفاصلة معه، أو مع محسّنات الفاصلة، و ذلك أن هذا الإنسان المتناسی الطاغی المتكاثر بأمواله و لذاته، و شهواته، و مدخراته، و نسائه، و أولاده، و دوره، و قصوره، و خدمه، و حشمه، و إداراته، و شئونه، و سلطانه، و عنوانه، و هذا كله تكاثر قد یصحبه التفاخر، و التنابز، و التنافر، أقول: إن هذا مما یناسبه لفظ «المقابر» بلاغیا و لغویا، فالمقابر جمع مقبرة، و المقبرة الواحدة مرعبة هائلة، فإذا ضممنا مقبرة مترامیة الأطراف إلی مقبرة مثلها، و مقبرة أخری، ازددنا إیحاشا و رعبا و فزعا، فإذا أصبحت مقابر عدیدة، تضاعف الرعب و الرهب، إذن هذا التكاثر الشهوانی فی كل شی‌ء، یوافقه- بدقة متناهیة- الجمع الملیونی للقبور، لتصبح مقابر لا قبورا، و لو قیل فی غیر القرآن بمساواة القبور للمقابر فی الدلالة لما سدّ هذا الشاغر الدلالی شی‌ء آخر من الألفاظ، فهو لها فحسب «2».
إذن لیست هذه الصیغة البلاغیة فی استعمال المقابر مجرد ملائمة صوتیة للتكاثر، و قد یحسّ أهل هذه الصنعة و نحن معهم فیها، نسق الإیقاع، و انسجام النغم، و لكن لیس هذا كل شی‌ء «3».
و لا یعنی هذا التغافل عن مهمة الانسجام الصوتی، و الواقع الموسیقی فی ترتیب الفواصل القرآنیة، فهی مرادة فی حد ذاتها إیقاعیا، و لكن یضاف إلیها غیرها من الأغراض الفنیة، و التأكیدات البیانیة، مما هو مرغوب فیه عند علماء البلاغة، فقوله تعالی: فَأَمَّا الْیَتِیمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) «4». فقد تقدم المفعول به فی الآیتین، و هو الیتیم فی الأولی،
______________________________
(1) التكاثر: 3- 4.
(2) ظ: المؤلف، تطور البحث الدلالی: 70 بتصرف.
(3) ظ: بنت الشاطی، التفسیر البیانی: 1/ 207 بتصرف.
(4) الضحی: 9- 10.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 147
و السائل فی الثانیة، و حقه التأخیر فی صناعة الاعراب، و قد جاء ذلك مراعاة لنسق الفاصلة من جهة، و إلی الاختصاص من جهة أخری، للعنایة فی الأمر.
و لعل ابن الأثیر (ت: 637 ه) كان مصیبا جدا حینما أرجع ذلك إلی الاختصاص و نظم الكلام، و لم یقل بأحدهما «1». بینما عاد بها إبراهیم أنیس إلی مراعاة موسیقی الفاصلة القرآنیة إذ لا یصح للمفعول أن یسبق ركنی الاسناد فی الجملة المثبتة كما یزعم أصحاب البلاغة «2».
و قد رده الدكتور أحمد مطلوب فی هذا الملحظ، لأن الهدف لیس القهر و النهر فی المقام الأول، و إنما الرجحة بالیتیم و السائل، و لذلك تقدم المفعولان علی فعلیهما، و لو كان القصد غیر ذلك لتأخرا و جاءا علی نسق الكلام المحفوظة رتبته «3».
و مهما یكن من أمر، فإن السجع عند العرب مهمة لفظیة تأتی لتناسق أواخر الكلمات فی الفقرات و تلاؤمها، فیكون الإتیان به أنی اتفق لسد الفراغ اللفظی، و أما مهمة الفاصلة القرآنیة فلیس كذلك، بل هی مهمة لفظیة معنویة بوقت واحد، إنها مهمة فنیة خالصة، فلا تفریط فی الألفاظ علی سبیل المعانی، و لا اشتطاط بالمعانی من أجل الألفاظ، بینما یكون السجع فی البیان التقلیدی مهمة تنحصر بالألفاظ غالبا، لذلك ارتفع مستوی الفاصلة فی القرآن بلاغیا و دلالیا عن مستوی السجع فنیا، و إن وافقه صوتیا.
و هنا نشیر إلی أن ابن سنان الخفاجی (ت 466 ه) قد ردّ جزءا من هذه المفاضلة بین السجع و الفاصلة، و خلص إلی سبب التسمیة فی معرض نقاشه لعلی بن عیسی الرمانی، «و أما قول الرمانی إن السجع عیب، و الفواصل علی الإطلاق بلاغة فغلط، فإنه إن أراد بالسجع ما یتبع المعنی، و كأنه غیر مقصود فذلك بلاغة، و الفواصل مثله، و إن كان یرید بالسجع ما
______________________________
(1) ظ: ابن الأثیر، المثل السائر: 2/ 39.
(2) ظ: إبراهیم أنیس، من أسرار العربیة: 312.
(3) ظ: أحمد مطلوب، بحوث لغویة: 58.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 148
تقع المعانی تابعة له، و هو مقصود متكلف، فذلك عیب، و الفواصل مثله ... و أظن أن الذی دعا أصحابنا إلی تسمیة كل ما فی القرآن فواصل، و لم یسمّوا ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم فی تنزیه القرآن عن الوصف اللاحق بغیره من الكلام المروی عن الكهنة و غیرهم، و هذا غرض فی التسمیة قریب» «1».
و یلحظ من النص، أنه یعیب ما ینافی البلاغة سواء أ كان سجعا أم سواه، و یشیر إلی ناحیتین:
الأولی: أن الفواصل هی كل ما فی أواخر الآیات تماثلت حروفه أو لم تتماثل خلافا للسجع المتماثل الحروف.
الثانیة: أن اختصاص أواخر الآیات بتسمیة الفواصل إنما وقع لرغبتهم أن لا یوصف كلام اللّه تعالی بالكلام المروی عن الكهنة لا مطلق السجع.

معرفة فواصل القرآن صوتیا:

من أجل تمییز الفاصلة، و معرفتها صوتیا، علینا تتبع فواصل الآیات بالدقة و الضبط، فی تنقلها فی القرآن عبر مسیرتها الإیقاعیة.
قال إبراهیم بن عمر الجعبری (ت: 732 ه):
«المعرفة الفواصل طریقان: توقیفی و قیاسی. أما التوقیفی: فما ثبت أنه صلی اللّه علیه و آله و سلم وقف علیه دائما، تحققنا أنه فاصلة، و ما وصله دائما، تحققنا أنه لیس بفاصلة ...
و أما القیاسی فهو ما ألحق من المحتمل غیر المنصوص بالمنصوص لمناسب، و لا محذور فی ذلك، لأنه لا زیادة فیه و لا نقصان، و الوقف علی كل كلمة جائز، و وصل القرآن كله جائز، فاحتاج القیاس إلی طریق تعرّفه، فنقول: فاصلة الآیة كقرینة السجعة فی النثر، و قافیة البیت فی
______________________________
(1) ابن سنان، سر الفصاحة: 166.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 149
الشعر، و ما یذكر من عیوب القافیة من اختلاف الحد و الإشباع و التوجیه فلیس بعیب فی الفاصلة، و جاز الانتقال فی الفاصلة، و القرینة، و قافیة الأرجوزة بخلاف قافیة القصیدة» «1».
و من هنا كان التنقل فی فواصل القرآن، إذ لا یلتزم فیها الوقوف عند حرف معین فی مواضع من السور، و یلتزمه فی مواضع أخر، و یجمع بین الالتزام و عدمه فی بعض السور، لأن الانتقال من الوقوف علی حرف إلی الوقوف علی حرف آخر، أو صیغة تعبیریة أخری فی فواصل القرآن، أمر مطرد و شائع، و نماذجه هائلة، كما أن الالتزام شائع أیضا، و الجمع بینهما وارد كذلك، و من هنا تبرز ثلاثة ملامح علی سبیل المثال:
الأول: جمع القرآن بین «تحشرون» و «العقاب»، و هما مختلفان فی حرف الفاصلة و الزنة فی قوله تعالی:
وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ یَحُولُ بَیْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَیْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِیبَنَّ الَّذِینَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِیدُ الْعِقابِ (25) «2».
و فی السورة نفسها جمع بین «تعلمون» و «عظیم» «3». و هذا مطرد فی القرآن بآلاف الأمثلة.
الثانی: الوقوف عند حرف معین لا یتغیر فی الفاصلة كما فی سور عدّة، و نماذج متعددة، فمن أمثلته عادة جملة من السور القصار، كالقدر، و العصر، و الفیل، و اللیل، و الكوثر، و الاخلاص، و الناس، و جملة من السور الوسطی كالأعلی و القمر، و فیها جمیعا مراعاة للمنهج الصوتی، و البعد الایقاعی، و یتجلی النغم الصوتی المتمیز بأبهی صوره، و اورع مظاهره فی سورة القمر، إذ تختتم فیها الفاصلة بصوت الراء مرددا بین طرف اللسان و أول اللهاة مما یلی الأسنان.
______________________________
(1) السیوطی، الاتقان: 3/ 291.
(2) الأنفال: 24- 25.
(3) ظ: الأنفال: 27- 28.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 150
الثالث: الوقوف عند حرف معین للفاصلة فی بعض السور، و الانتقال منه للوقوف عند حرف آخر للفاصلة فی بعضها الآخر، و أمثلته متوافرة فی جملة من سور القرآن، كالنبإ، و المرسلات، و النازعات، و التكویر، و الانفطار، و المطففین، و انظر إلی قوله تعالی فی سورة «عبس» و هی تواكب صوت الهاء فی فواصل عدة آیات، ثم تنتقل إلی الراء الملحقة بالتاء القصیرة بعدها فی آیات آخر:
یَوْمَ یَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِیهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِیهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِیهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ یَوْمَئِذٍ شَأْنٌ یُغْنِیهِ (37) وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ یَوْمَئِذٍ عَلَیْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) «1».
و قد لا یراد الملحظ الصوتی مجردا عند الابعاد الأخری فی فواصل الآیات، فقد یجتمع فی الفاصلة الغرض الفنی بجنب الغرض الدینی، فتؤدی الفاصلة غرضین فی عمل مزدوج، فمن أبرز الصور الاجتماعیة الهادفة فی سورة البلد: آیات العقبة، و تفصیلات یوم القیامة، فی تجاوز مظاهر الغل و القید، و مراحل الفقر و الجوع لیتم تجاوز العقبة الحقیقیة فی القیامة، و لا یتم ذلك إلا بتجاوز عقبات الظلم الاجتماعی، و تخطی مخلفات العهد الجاهلی، و اقتحام القیم التی عطلت الحیاة الإنسانیة عن مسیرتها فی التحرر و الانطلاق، و هی قیم قاتلة، و أعراف بالیة نشأت عن الطغیان المتسلط، و التفاوت الطبقی المقیت، فالرقّ ضارب بأطنابه، و الاستئثار شكل مجاعة بشریة جماعیة، و القطیعة فی الأرحام أنهكت الأیتام، و الغنی اللامشروع فجّر سیلا من الأوضار الاجتماعیة تشكل رعیلا سادرا من الأرامل و الأیامی و المساكین، ممن ألصقهم الفقر بالتراب، أو لصقوا هم به من الفقر و الضرر و الفاقة، فأحال ألوانهم كلونه، فهم یلتحفون التراب و یفترشونه، و لا یجدون غیره، حتی عادوا جزءا منه، و عاد هو جزءا من كیانهم، فمن التراب و علی التراب و إلی التراب.
هذا المناخ المزری عقبات متراكمة، من فوقها عقبات متراكمة، و إزالة هذه العقبات تدریجیا هو الطریق إلی قفز تلك العقبة الكبری
______________________________
(1) عبس، 34- 42.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 151
و تجاوزها، فی حیاة قوله تعالی: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِی یَوْمٍ ذِی مَسْغَبَةٍ (14) یَتِیماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِیناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) «1».
ما هذا الإیقاع المجلجل؟ و ما هذه النبرات الصوتیة الرتیبة؟ و ما هذا النسق المتوازن؟ العقبة، رقبة، مسغبة، مقربة، متربة، أصداء صوتیة متلاحقة، فی زنة متقاربة، زادها السكت رنة و تأثیرا و لطف تناغم، وسط شدة هائلة مرعبة، و خیفة من حدیث نازل متوقع، فالاقتحام فی مصاعبه و مكابدته، و العقبة فی حراجتها و التوائها و مخاطرها، یتعانقان فی موضع واحد، یوحی بالرهبة و الفزع.
«و الاقتحام هو أنسب الألفاظ للعقبة لما بینهما من تلاؤم فی الشدة و المجاهدة و احتمال الصعب، و المناسبة بین اقتحام العقبة و بین خلق الإنسان فی كبد، أوضح من أن یحتاج إلی بیان، و الجمع بینهما فی هذا السیاق، یقدم لنا مثلا رائعا من النظم القرآنی المعجز: فالإنسان المخلوق فی كبد، أهل لأن یقتحم أشد المصاعب، و یجتاز أقسی المفاوز، علی هدی ما تهیأ له من وسائل الإدراك و التمییز، و ما فطر علیه من قدرة علی الاحتمال و المكابدة» «2».
قال الطبرسی (ت: 548 ه) و هو یتحدث عن هذا السیاق: «إنه مثل ضربه اللّه تعالی لمجاهدة النفس و الهوی و الشیطان فی أعمال الخیر و البر، فجعل ذلك كتكلیف صعود العقبة الشاقة الكئود، فكأنه قال: لم یحمل علی نفسه المشقة بعتق الرقبة و الإطعام» «3».
و إرادة التأنیب و التعنیف مع الحض و الترجیح و التحبیب، فی صیغة النفی و تقریره، و الاستفهام و تهویله، حافز و أی حافز علی معالجة هذه المخاوف الاجتماعیة السائدة، و درء هذه المشاكل العالقة فی المجتمعات المختلفة: السغب، الیتم، المسكنة، إنها آفات متطاولة تنخر فی بنیة
______________________________
(1) البلد: 11- 16.
(2) بنت الشاطی، التفسیر البیانی: 1/ 190.
(3) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 495.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 152
الجسم الإنسانی فتهدمه، و اقتحامها بحزم یتركها وراء الإنسان مسافات مترامیة، و ذلك ما یهیئ السبیل إلی تجاوز العقبة المترقبة الوقوع، فی كل معانیها البیانیة: حقیقیة كانت أو مجازیة.
إن ورود هذه الآیات فی نسق صوتی متجانس، و صیغة إصلاحیة هادفة، یضفی علی الفاصلة القرآنیة، جمالها المعهود، و حسها الإیقاعی الهادر، دون تطلع إلی تعبیر مماثل أو مغایر، فهی تمتلك النفس، و تأخذ بالإحساس فی نظام رتیب، فالحریة أولا، و العطاء المغنی ثانیا، بدءا بالأرحام، و عطفا علی الآخرین، و فیها أخذ بملحظ القرابة و الرحم، و حث علی تقدیم ذوی القربی من المعوزین علی الأباعد فی فك القیود، و عتق الرقاب، و الاطعام بإحسان.

ظواهر الملحظ الصوتی فی فواصل الآیات:

الملحظ الصوتی فی فواصل الآیات القرآنیة قائم علی عدة ظواهر، نرصد منها أربع ظواهر:
الأولی: و تتمثل بزیادة حرف ما فی الفاصلة و عنایة للبعد الصوتی، و عنایة بنسق البیان فی سر اعتداله، لیؤثر فی النفس تأثیره الحسّاس، فتشرئبّ الأعناق، و تتطلع الأفئدة حین یتواصل النغم بالنغم، و یتلاحم الإیقاع بالإیقاع، و أبرز مظاهر هذه الظاهرة ألف الاطلاق إن صح التعبیر بالنسبة للقرآن، فقد ألحقت الألف فی جملة من الآیات بأواخر بعض كلماتها، و كان حقها الفتح مطلقا، دون مدّ الفتحة حتی تكون ألفا، و انظر معی فی سورة واحدة، إلی كل من قوله تعالی، و كأن ذلك معنی بحد ذاته و مقصود إلیه لا ریب:
و قال تعالی: وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا «1».
و قال تعالی: فَأَضَلُّونَا السَّبِیلَا «2».
و قال تعالی: وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا «3».
______________________________
(1) الأحزاب: 10.
(2) الأحزاب: 67.
(3) الأحزاب: 66.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 153
یبدو أن إلحاق هذه الألف فی «الظنون» «السبیل» «الرسول» یشكل تلقائیا ظاهرة صوتیة تدعو إلی التأمل، و إلا فما یضیر الفتح لو لا الملحظ الصوتی «لأن فواصل هذه السورة منقلبة عن تنوین فی الوقف، فزید علی النون ألف لتساوی المقاطع، و تناسب نهایات الفواصل» «1».
و ما یقال هنا یقال فیما ورد بسورة القارعة فی زیادة هاء السكت و إلحاقها فی «هی» لتوافق الفاصلة الأولی الثانیة فی قوله تعالی: وَ ما أَدْراكَ ما هِیَهْ (10) نارٌ حامِیَةٌ (11) «2».
و هیا إلی سورة الحاقة و انظر إلی هاء «السكت» فی إضافتها و إنارتها فی جملة من آیاتها، فتقف خاشعا مبهورا، تمتلك هزة من الأعماق و أنت مأخوذ بهذا الوضع الموسیقی الحزین، المنبعث من أقصی الصدر و أواخر الحلق، فتتقطع الأنفاس، و تتهجد العواطف، واجمة، متفكرة، متطلعة، فتصافح المناخ النفسی المتفائل حینا، و المتشائم حینا آخر، و أنت فیما بینهما بحالة متأرجحة بین الیأس و الرجاء، و الأمل و الفزع، و الخشیة و التوقع، فسبحان اللّه العظیم حیث یقول:
یَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفی مِنْكُمْ خافِیَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِیَ كِتابَهُ بِیَمِینِهِ فَیَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِیَهْ (19) إِنِّی ظَنَنْتُ أَنِّی مُلاقٍ حِسابِیَهْ (20) فَهُوَ فِی عِیشَةٍ راضِیَةٍ (21) فِی جَنَّةٍ عالِیَةٍ (22) قُطُوفُها دانِیَةٌ (23) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِیئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِی الْأَیَّامِ الْخالِیَةِ (24) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِیَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَیَقُولُ یا لَیْتَنِی لَمْ أُوتَ كِتابِیَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِیَهْ (26) یا لَیْتَها كانَتِ الْقاضِیَةَ (27) ما أَغْنی عَنِّی مالِیَهْ (28) هَلَكَ عَنِّی سُلْطانِیَهْ (29) «3».
فأنت تلاحظ الفواصل: كتابیه، حسابیه، كتابیه، حسابیه، مالیه، سلطانیه، قد أزیدت فیها هاء السكت رعایة لفواصل الآیات المختومة بالتاء القصیرة و التی اقتضی السیاق نطقها هاء للتوافق.
و ما زلنا عند الهاء، فتطلع إلیها، و هی ضمیر ملصق بالفواصل، غیر زائد بل أصلی الورود، و قد حقق بذلك وقعه فی النفس، و جرسه فی
______________________________
(1) الزركشی، البرهان: 1/ 61.
(2) القارعة: 10- 11.
(3) الحاقة: 18- 29
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 154
الأذن، و قوته فی امتلاك المشاعر، قال تعالی:
یَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ یَفْتَدِی مِنْ عَذابِ یَوْمِئِذٍ بِبَنِیهِ (11) وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِیهِ (12) وَ فَصِیلَتِهِ الَّتِی تُؤْوِیهِ (13) وَ مَنْ فِی الْأَرْضِ جَمِیعاً ثُمَّ یُنْجِیهِ (14) «1».
فلا زیادة فی هذه الهاء، و هی ضمیر فی الفواصل كلها، و قد حققت صوتیا مناخ الانتباه، و رصد مواضع الاصغاء من النفس الإنسانیة.
الثانیة: و تتمثل بحذف حرف ما رعایة للبعد الصوتی، و عنایة بالنسق القرآنی كما فی قوله تعالی:
وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَیالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّیْلِ إِذا یَسْرِ (4) «2».
فقد حذفت الیاء من یسری موافقة للفاصلة فیما یبدو و مثله قوله تعالی: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَیَقُولُ رَبِّی أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَیْهِ رِزْقَهُ فَیَقُولُ رَبِّی أَهانَنِ (16) «3».
فالیاء من «اكرمن» و «أهانن» قد حذفت رعایة لهذا الملحظ، و لما فی النون من الغنة عند الوقوف علیها فیما یبدو، و یظهر أن هذا الأمر مطرد فی جملة من آیات القرآن الكریم فی الفواصل ما فی قوله تعالی: لَكُمْ دِینُكُمْ وَ لِیَ دِینِ (6) «4».
الثالثة: و تتمثل فی تأخیر ما حقه التقدیم، و تقدیم ما حقه التأخیر، زیادة فی العنایة بتركیب السیاق، و تناسق الألفاظ، و ترتیب الفواصل، كما فی قوله تعالی: فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُوسی (67) «5». فتأخر الفاعل و حقه التقدیم، و علیه یحمل تقدیم هارون علی موسی فی قوله تعالی:
فَأُلْقِیَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسی (70) «6». فإن هارون وزیر لموسی، و أهمیة موسی سابقة له، و قدم هارون علیه رعایة لفواصل آیات السورة، إذا انتظمت علی الألف و الألف المقصورة فی أغلبها، و اللّه العالم.
______________________________
(1) المعارج: 11- 14.
(2) الفجر: 1- 4.
(3) الفجر: 15- 16.
(4) الكافرون: 6.
(5) طه: 67.
(6) طه: 70.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 155
الرابعة: أشار الزركشی (ت: 794 ه) أنه قد كثر فی القرآن الكریم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد و اللین و إلحاق النون، و حكمته وجود التمكن من التطریب «1».
و حكی سیبویه (ت: 180 ه) عن العرب أنهم إذا ما ترنموا فإنهم یلحقون الألف و الواو و الیاء، ما ینون، و ما لا ینون، لأنهم أرادوا مدّ الصوت «2».
و ورود النون بعد حروف المدّ متواكبة فی القرآن حتی عاد ذلك سرا صوتیا متجلیا فی جزء كبیر من فواصل آیات سوره، و نشیر علی سبیل النموذج الصوتی لكل حرف من حروف المدّ تلیه النون بمثال واحد.
1- وردت الألف مقترنة بالنون فی منحنی كبیر من فواصل سورة الرحمن علی نحوین:
الأول: و ردهما متقاطرین، و هما- أی الألف و النون- من أصل الكلمات كما فی قوله تعالی:
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَیانَ (4) الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) «3».
الثانی: و ردهما متقاطرین، و هما- أی الألف و النون- ملحقان بالكلمة علامة للرفع و دلالة علی التثنیة كما فی قوله تعالی: مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیانِ (19) بَیْنَهُما بَرْزَخٌ لا یَبْغِیانِ (20) فَبِأَیِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) «4».
و یتحقق فی النحوین مدّ الصوت تحقیقا للترنم.
2- وردت الیاء مقترنة بالنون فی أبعاد كثیرة من فواصل الآیات القرآنیة، ففیما اقتص اللّه من خبر نوح علیه السلام قال تعالی: فَإِذَا اسْتَوَیْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَی الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِی نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِی مُنْزَلًا
______________________________
(1) ظ: الزركشی، البرهان: 1/ 68.
(2) سیبویه، الكتاب: 2/ 298.
(3) الرحمن: 1- 5.
(4) الرحمن: 19- 21.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 156
مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَیْرُ الْمُنْزِلِینَ (29) إِنَّ فِی ذلِكَ لَآیاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِینَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِینَ (31) «1».
و الطریف أن سورة المؤمنین تتعاقب فواصلها الیاء و النون أو الواو و النون، شأنها فی ذلك شأن جملة من سور القرآن، فكأنها جمیعا تعنی بهذا الملحظ الدقیق.
3- وردت الواو مقترنة بالنون فی أجزاء عدیدة و متنوعة من فواصل طائفة كبیرة من السور، فسورة الشعراء فیها تعاقب كبیر علی الیاء و النون مضافا إلیه التعاقب علی الواو و النون موضع الشاهد كما فی قوله تعالی:
إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِیلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِیعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُیُونٍ (57) «2».
إن ما أبداه الزركشی من ختم كلمة مقطع الفواصل بحروف المد و اللین و إلحاق النون، لیس بالضرورة للتمكن من التطریب، و لكنه یشكل ظاهرة بارزة فی صیغ تعامل القرآن الكریم مع هذه الحروف مقترنة بالنون، و قد یخفی علینا السبب، و یغیب عنا جوهر المراد، و مع ذلك فهو ملحظ متحقق الورود.

الإیقاع الصوتی فی موسیقی الفواصل:

هناك سمات إیقاعیة فی سیاق فواصل الآیات، و من خلال عبارات الجمل و الفقرات التی ارتبطت بنسق جمهرة من آیات القرآن المجید، نجم عنها كثیر من الاشكال فی التفسیر لوجودها مجاریة لزنة جملة من بحور الشعر، و بدأ محرّر و علوم القرآن، یتصدرون للدفاع عن ذلك حینا، و لتفسیره كلامیا و احتجاجیا بلغة الجدل حینا آخر، و لو أنهم عمدوا إلی ربط مثل هذه الظواهر بالإیقاع الصوتی لكان ذلك ردا مفحما، و لو فسروها صوتیا لارتفع الإشكال و تلاشی.
القرآن كلام اللّه فحسب، لیس من جنس النثر فی صنوفه و إن اشتمل
______________________________
(1) المؤمنون: 28- 31.
(2) الشعراء: 54- 57.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 157
علی ذروة ممیزاته العلیا، و لم یكن ضربا من الشعر و إن ضم بین دفتیه أوزان الشعر جمیعا وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِیلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِیلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِیلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِینَ (43) «1».
فهو لیس من سنخ ما یتقولون، و لا بنسیج ما یتعارفون، ارتفع بلفظه و معناه، و طبیعته الفنیة الفریدة، عن مستوی الفن القولی عند العرب، فالمقولة بأنه شعر باطلة من عدّة وجوه:
الأول: التأكید فی القرآن نفسه بنفی صفة الشعر عنه، و التوجیه بأنه ذكر و قرآن مبین بقوله تعالی:
وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما یَنْبَغِی لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِینٌ (69) «2».
الثانی: الردّ فی القرآن علی دعوی القول بأن النبی شاعر، و أن القرآن منه فی ثلاثة مواطن:
1- الملحظ الافترائی الموجه إلیه، و المعبر عنن حیرة المشركین:
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْیَأْتِنا بِآیَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) «3».
2- التعصب الأعمی للآلهة المزعومة دون وعی، و بكل إصرار بافتعال الادعاء الكاذب:
وَ یَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) «4».
3- التربص بالنبی صلی اللّه علیه و آله و سلم و توقع الموت له، بزعمهم أن سیموت شعره المفترض معه!! أَمْ یَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَیْبَ الْمَنُونِ (30) «5».
الثالث: إن العرب لو اعتقدوا أن القرآن شعر لأسرعوا إلی معارضته من قبل شعرائهم، فالشعر دیوان العرب، و قصائدهم معلقة بالكعبة تعبیرا عن اعتدادهم بالشعر، و اعتزازهم بالشعراء، و هم أئمة البیان و رجال
______________________________
(1) الحاقة: 41- 43.
(2) یس: 69.
(3) الأنبیاء: 5.
(4) الصافات: 36.
(5) الطور: 30.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 158
الفصاحة، و لكنها مغالطة واضحة «و لو كان ذلك لكانت النفوس تتشوق إلی معارضته، لأن طریق الشعر غیر مستصعب علی أهل الزمان الواحد، و أهله یتقاربون فیه، أو یضربون فیه بسهم» «1».
الرابع: إن الشعر إنما یقصد إلیه بذاته فینظم مع إرادة ذلك، و لا یتفق اتفاقا أن یقول أحدهم كلاما فیأتی موزونا، فالشعر «إنما ینطلق متی قصد إلیه علی الطریق التی تعمد و تسلك، و لا یصح أن یتفق مثله إلا من الشعراء دون ما یستوی فیه العامی و الجاهل و العالم بالشعر و اللسان و تصرفه، و ما یتفق من كل واحد، فلیس بشعر فلا یسمی صاحبه شاعرا، و إلا لكان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ینفك أن یعرض فی جملة كلامه ما یتزن بوزن الشعر و ینتظم بانتظامه» «2».
سقنا هذا فی حیثیة تنزیه القرآن عن سمة الشعر و صفته، لأنه قد وجد فیه ما وافق شعرا موزونا، و ما یدریك فلعل القرآن یرید أن یقول للعرب:
إن هذا الشعر الذی تتفاخرون به، نحن نحیطكم علما بأوزانه علی سبیل الأمثلة لتعتبروا بسوقها سیاق القرآن فی صدقه و أمانته، و لا غرابة أن یكون القرآن یرید أن ینحو الشاعر بشعره منحی الحق و الصرامة و الفضیلة و الصدق، و مع هذا و ذاك فما ورد من الموزون فیه جار علی سنن العرب فی كلامها، إذ قد یتفق الموزون ضمن المنشور، بلا إرادة للموزون، و لا تغییر للمنظوم. فقد حكی الزركشی (ت: 794 ه) أن إعرابیا سمع قارئا یقرأ: یا أَیُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَیْ‌ءٌ عَظِیمٌ (1) «3».
فقال كسرت، إنما قال:
یا أیها الناس اتقوا ربكم‌زلزلة الساعة شی‌ء عظیم فقیل له: هذا القرآن، و لیس الشعر «4».
فاعتقده لأول مرة شعرا فحذف «أن» لیستقیم الوزن فیما عنده. و لو قلنا بالإیقاع الصوتی، و فسرنا الورود البیانی لهذا المظهر الموزون بمجانسة
______________________________
(1) الباقلانی، إعجاز القرآن: 82.
(2) المصدر نفسه: 83.
(3) الحج: 1.
(4) الزركشی، البرهان: 2/ 116.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 159
الأصوات، و قارنّا عن كثب بمناسبة الصوت للصوت، و ملاءمة النطق بالحروف، و متابعة الأذن للموسیقی، و السمع للنبر و التنغیم، زیادة علی ما تقدم لكنا قد أحسنّا التعلیل فیما یبدو، أو توصلنا فی الأقل إلی بعض الوجوه المحتملة، أو الفوائد الصوتیة المترتبة علی هذا المعلم الواضح، و اللّه أعلم.
و قد یقال بأن هذا المعلم إنما ینطبق علی أجزاء من الآیات لا الفاصلة وحدها، فیقال حینئذ بأن وجود الفاصلة فی هذه الأجزاء من الآیات هو الذی جعل جملة هذا الكلام موزونا، فبدونها ینفرط نظام هذا السلك، و ینحل عقد هذا الابرام لهذا نسبنا أن یكون الحدیث عن هذا الملحظ ضمن هذا البحث.
و مهما یكن من أمر، فإن ورود ما ورد من هذا القبیل فی القرآن ینظر فیه إلی غرضه الفنی مضافا إلی الغرض التشریعی، و هما به متعانقان.
إننا بین یدی مخزون ثم فی هذا الرصد، ننظره و كأننا نلمسه، و نتحسسه و كأننا نحیا به، فحینما نستمع خاشعین إلی صیغة موزونة منتظمة بقوله تعالی: إِنَّا أَعْطَیْناكَ الْكَوْثَرَ (1) «1». فإننا نتعامل مع وقع خاص یذكرنا بالعطاء غیر المحدود للنبی الكریم، و حینما نستمع- موزونا- إلی قوله تعالی: هَیْهاتَ هَیْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) «2». تصك أسماعنا بلغة الوعید، فتخشع القلوب و تتحسس الأفئدة.
و حینما نستمع- موزونا- إلی قوله تعالی: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِیلًا «3».
نستبشر من الأعماق بهذا المناخ الهادی، و نستشعر هذا النعیم السرمدی بإیقاع یأخذ بمجامع القلوب، و یشد إلیه المشاعر.
و حینما نستمع- موزونا- إلی قوله تعالی: تَبَّتْ یَدا أَبِی لَهَبٍ «4». الصوت اللغوی فی القرآن 159 الإیقاع الصوتی فی موسیقی الفواصل: ..... ص : 156
یقرع أسماعنا هذا المصیر الشدید العاتی، فیستظهره السامع دون جهد، و یجری مجری الأمثال فی إفادة عبرتها و حجتها. و حینما نستمع حالمین
______________________________
(1) الكوثر: 1.
(2) المؤمنون: 36.
(3) الدهر (الإنسان): 14.
(4) المسد: 1.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 160
إلی قوله تعالی: وَ مِنَ اللَّیْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40) «1». فإننا نستشعر هذا الأمر بقلوبنا قبل الأسماع، هادئا ناعما متناسقا، و هو یدعو إلی تسبیح اللّه و تقدیسه آناء اللیل و أطراف النهار.
و حینما نستمع إلی قوله تعالی: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِیبٌ «2». فإن العزائم تهب علی هذا الصوت المدوی، بإعلان النصر لنبیه، و الفتح أمام زحفه، فتعم البشائر، و تتعالی البهجة.
و حینما نستمع إلی قوله تعالی: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «3». فالصوت الرفیق هذا یمس الاسماع مسا رفیقا حینا، و یوقظ الضمائر من غفلتها حینا آخر، و هو یستدر كرم المخائل، و یوجه مسیرة التعاطف، و یسدد مراصد الانفاق، و المسلم الحقیقی یسعی إلی البر الواقعی فأین موطنه؟ إنه الانفاق مما یحب، و العطاء مما یحدب علیه، و الفضل بأعز الأشیاء لدیه، و بذلك ینال البر الذی ما فوقه بر.
و حینما نستمع إلی قوله تعالی: أَ رَأَیْتَ الَّذِی یُكَذِّبُ بِالدِّینِ (1) فَذلِكَ الَّذِی یَدُعُّ الْیَتِیمَ (2) «4». و تمد الفتحة لتكون ألف إطلاق، و تصبح فی غیر القرآن (الیتیما) فإنك تقف عند بحر الخفیف من الشعر، و هو من الأوزان الراقصة، تقف عند صرخة مدوّیة، و جلجلة متأججة تقارن بین التكذیب بیوم القیامة، و بین دعّ الیتیم فی معاملته بخشونة، و صده بجفاف و غلظة.
هذه النماذج الخیرة التی تبركنا بإیرادها، و التی تنبه من الغفوة و الغفلة، و تدفع إلی الاعتبار و العظة، و تزید من البصیرة و التدبر، قد أضفی علیها الملحظ الصوتی موسیقاه الخاصة، فعاد القول بصوتیتها من جملة أسرارها الجمالیة، و التأكید علی تناغمها الإیقاعی من أبرز ملامحها الفنیة.
هذه میزة ناصعة من مزایا فواصل الآیات باعتبار العبارات.
______________________________
(1) ق: 40.
(2) الصف: 13.
(3) آل عمران: 92.
(4) الماعون: 1- 2.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 161

الفصل السادس الدلالة الصوتیة فی القرآن‌

اشارة

1- مظاهر الدلالة الصوتیة 2- دلالة الفزع الهائل 3- الإغراق فی مدّ الصوت و استطالته 4- الصیغة الصوتیة الواحدة 5- دلالة الصدی الحالم 6- دلالة النغم الصارم 7- الصوت بین الشدة و اللین 8- الألفاظ دالة علی الأصوات 9- اللفظ المناسب للصوت المناسب
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 163

مظاهر الدلالة الصوتیة:

انصبت عنایة القرآن العظیم بالاهتمام فی إذكاء حرارة الكلمة عند العرب، و توهج العبارة فی منظار حیاتهم، و حدب البیان القرآنی علی تحقیق موسیقی اللفظ فی جمله، و تناغم الحروف فی تركیبه، و تعادل الوحدات الصوتیة فی مقاطعه، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات، و تراكیب البیان متلائمة الأصوات، فاختار لكل حالة مرادة ألفاظها الخاصة التی لا یمكن أن تستبدل بغیرها، فجاء كل لفظ متناسبا مع صورته الذهنیة من وجه، و مع دلالته السمعیة من وجه آخر، فالذی یستلذه السمع، و تسیغه النفس، و تقبل علیه العاطفة هو المتحقّق فی العذوبة و الرقة، و الذی یشرأب له العنق، و تتوجس منه النفس هو المتحقق فی الزجر و الشدة، و هنا ینبه القرآن المشاعر الداخلیة عند الإنسان فی إثارة الانفعال المترتب علی مناخ الألفاظ المختارة فی مواقعها فیما تشیعه من تأثیر نفسی معین سلبا و إیجابا.
و بیان القرآن المجید تلمح فیه الفروق بین مجموعة هذه الأصوات فی إیقاعها، و التی كونت كلمة معین فی النص، و بین تلك الأصوات التی كونت كلمة أخری، و تتعرف فیه علی ما یوحیه كل لفظ من صورة سمعیة صارخة تختلف عن سواها قوة أو ضعفا، رقة أو خشونة، حتی تدرك بین هذا و ذاك المعنی المحدد المراد به إثارة الفطرة، أو إذكاء الحفیظة، أو مواكبة الطبیعة بدقة متناهیة، و یستعان علی هذا الفهم لا بموسیقی اللفظ منفردا، أو بتناغم الكلمة وحدها، بل بدلالة الجملة أو العبارة منضمّة إلیه.
إن إیقاع اللفظ المفرد، و تناغم الكلمة الواحدة، عبارة عن جرس
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 164
موسیقی للصوت فیما یجلبه من وقع فی الأذن، أو أثر عند المتلقی، یساعد علی تنبیه الأحاسیس فی النفس الإنسانیة، لهذا كان ما أورد القرآن الكریم فی هذا السیاق متجاوبا مع معطیات الدلالة الصوتیة: «التی تستمد من طبیعة الأصوات نغمتها و جرسها» «1». فتوحی بأثر موسیقی خاص، یستنبط من ضم الحروف بعضها لبعض، و یستقرأ من خلال تشابك النص الأدبی فی عبارته، فیعطی مدلولا متمیزا فی مجالات عدة: الألم، البهجة، الیأس، الرجاء، الرغبة، الرهبة، الوعد، الوعید، الأنذار، التوقع، الترصد، التلبث ... الخ.
و لا شك أن استقلالیة أیة كلمة بحروف معینة، یكسبها صوتیا ذائقة سمعیة منفردة، تختلف- دون شك- عما سواها من الكلمات التی تؤدی المعنی نفسه، مما یجعل كلمة ما دون كلمة- و إن اتحدا بالمعنی، لها استقلالیتها الصوتیة، إما فی الصدی المؤثر، و إما فی البعد الصوتی الخاص، و إما بتكثیف المعنی بزیادة المبنی، و إما بإقبال العاطفة، و إما بزیادة التوقع، فهی حینا تصك السمع، و حینا تهیئ النفس، و حینا تضفی صیغة التأثر: فزعا من شی‌ء، أو توجها لشی‌ء، أو طمعا فی شی‌ء، و هكذا.
هذا المناخ الحافل تضفیه الدلالة الصوتیة للألفاظ، و هی تشكل فی القرآن الوقع الخاص المتجلی بكلمات مختارة، تكونت من حروف مختارة، فشكلت أصواتا مختارة، هذه السمات فی القرآن بارزة الصیغ فی مئات التراكیب الصوتیة فی مظاهر شتی، و مجالات عدیدة، تستوعبها جمهرة هائلة من ألفاظه فی ظلال مكثفة فی الجرس و النغم و الصدی و الإیقاع.
قال الخطابی (ت: 383- 388 ه) إن الكلام إنما یقوم بأشیاء ثلاثة: «لفظ حاصل، و معنی به قائم، و رباط لهما ناظم، و إذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فی غایة الشرف و الفضیلة، حتی لا تری شیئا من الألفاظ أفصح، و لا أجزل، و لا أعذب من ألفاظه» «2».
______________________________
(1) إبراهیم أنیس، دلالة الألفاظ: 46.
(2) الخطابی: بیان إعجاز القرآن: 27.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 165
و هذا مما ینطبق علی استیحاء الدلالة الصوتیة فی القرآن بجمیع الأبعاد، یضاف إلیه الوقع السمعی للفظ، و التأثیر النفسی للكملة، و المدلول الانفعالی بالحدث، و تلك مظاهر متأنقة قد یتعذر حصرها، و قد یطول الوقوف عند استقصائها.
و كان من فضیلة القرآن الصوتیة أن استوعب جمیع مظاهر الدلالة فی مجالاتها الواسعة، و تمرس فی استیفاء وجوه التعبیر عنها بمختلف الصور الناطقة، و قد یكون من غیر الممكن استحضار جمیع الصیغ فی استعمالات القرآن للدلالة الصوتیة، لهذا فإن من المعقول جدا أن أقف عند المهم منها، أو ما یبدو أنه مهم فی الأقل، و ذلك باستطراد بعض النماذج النابضة فیما أخال و أزعم، و قد یعبر كل نموذج منها عن مظهر فنی، لیقاس مثله علیه، و شبیهه به، و بذلك یتأتی للباحث و المتلقی إلقاء الضوء الكاشف علی أبعاد دلالة القرآن الصوتیة، فی تشعب جوانبها، و عظمة انطلاقها، مما یكوّن معجما لغویا خاصا بمفرداتها، و قاموسا صوتیا حافلا بإمكاناتها.
سیقتصر حدیثنا عن مظاهر الدلالة فی مجالات قد تكون متقابلة، أو متناظرة، أو متضادة، أو متوافقة، و هی بمجموعها تكون أبعاد الدلالة الصوتیة فی القرآن، و هذا ما تتكفّل بإیضاحه المباحث الآتیة.

دلالة الفزع الهائل:

استعمل القرآن طائفة من الألفاظ، ثم اختیار أصواتها بما یتناسب مع أصدائها، و استوحی دلالتها من جنس صیاغتها، فكانت دالة علی ذاتها بذاتها، فالفزع مثلا، و الشدة، و الهدة، و الاشتباك، و الخصام، و العنف، دلائل هادرة بالفزع الهائل و المناخ القاتل.
1- قف عند مادة صرخ فی القرآن، و الصرخة الصیحة الشدیدة عند الفزع، و الصراخ الصوت الشدید «1». لتلمس عن كثب، و بعفویة بالغة:
الاستغاثة بلا مغیث، فی قوله تعالی: وَ هُمْ یَصْطَرِخُونَ فِیها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً «2». مما یوحی بأن الصراخ قد بلغ ذروته، و الاضطراب قد تجاوز
______________________________
(1) ظ: ابن منظور، لسان العرب: 4/ 2.
(2) فاطر: 37.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 166
مداه، و الصوت العالی الفظیع یصطدم بعضه ببعض، فلا أذن صاغیة، و لا نجدة متوقعة، فقد وصل الیأس أقصاه، و القنوط منتهاه، فالصراخ فی شدة إطباقه، و تراصف إیقاعه، من توالی الصاد و الطاء، و تقاطر الراء و الخاء، و الترنم بالواو و النون یمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوی «و الاصطراخ الصیاح و النداء و الاستغاثة: افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها، و إنما نفعل ذلك لتعدیل الحروف بحرف وسط بین حرفین یوافق الصاد فی الاستعلاء و الإطباق، و یوافق التاء فی المخرج» «1».
و الإصراخ هو الإغاثة، و تلبیة الصارخ، و قوله تعالی: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِیَ «2». تعنی البراءة المتناهیة، و الإحباط التام، و الصوت المجلجل فی الدفع، فلا یغنی بعضهم عن بعض شیئا، و لا ینجی أحدهم الآخر من عذاب الله، و لا یغیثه مما نزل به، فلا إنقاذ و لا خلاص و لا صریخ من هذه الهوة، و تلك النازلة، فلا الشیطان بمغیثهم، و لا هم بمغیثیه.
و الصریخ فی اللغة یعنی المغیث، و المستغیث، فهو من الأضداد، و فی المثل: عبد صریخه أمة، أی ناصره أذل منه «3». و قد قال تعالی: فَلا صَرِیخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ یُنْقَذُونَ «4». فیا له من موقف خاسر، و جهد بائر، فلا سماع حتی لصوت الاستغاثة، و لا إجارة مما وقعوا فیه.
و الاستصراخ الإغاثة، و استصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، و هو الصوت یعلمه بأمر حادث لیستعین به «5».
قال تعالی: فَإِذَا الَّذِی اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ یَسْتَصْرِخُهُ «6». طلب للنجدة فی فزع، و محاولة للإنقاذ فی رهب، و الاستعانة علی العدو بما یردعه عن
______________________________
(1) الطبرسی، مجمع البیان: 4/ 410.
(2) إبراهیم: 22.
(3) ابن منظور، لسان العرب: 4/ 3.
(4) یس: 43.
(5) ابن منظور، لسان العرب: 4/ 3.
(6) القصص: 18.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 167
الإیقاع به، و ما ذلك إلا نتیجة خوف نازل، و فزع متواصل، و تشبث بالخلاص.
2- و ما یستوحی من شدة اللفظ فی مادة «صرخ» یستوحی بإیقاع مقارب من قوله تعالی: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِیهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ «1». لتبرز «متشاكسون» و هی تعبر لغة عن المخاصمة و العناد و الجدل فی أخذ ورد لا یستقران، و قد تعطی معناها الكلمة: متخاصمون، و لكن المثل القرآنی لم یستعملها حفاظا علی الدلالة الصوتیة التی أعطت معنی النزاع المستمر، و الجدل القائم، و قد جمعت فی هذه الكلمة حروف التفشی و الصفیر فی الشین و السین تعاقبا، تتخللهما الكاف من وسط الحلق، و الواو و النون للمد و الترنم، و التأثر بالحالة، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغما موسیقیا خاصا حملها أكثر من معنی الخصومة و الجدل و النقاش بما أكسبها أزیزا فی الأذن، یبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصیة بلغت درجة الفورة، و العنف و الفزع من جهة، كما أحیط السمع بجرس مهموس معین ذی نبرات تؤثر فی الحس و الوجدان من جهة أخری.
3- و تأمل مادة «كبّ» فی القرآن، و هی تعنی إسقاط الشی‌ء علی وجهه كما فی قوله تعالی: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِی النَّارِ «2» فلا إنقاذ و لا خلاص و لا إخراج، و الوجه أشرف مواضع الجسد، و هو یهوی بشدة فكیف بباقی البدن.
و الإكباب جعل وجهه مكبوبا علی العمل، قال تعالی: أَ فَمَنْ یَمْشِی مُكِبًّا عَلی وَجْهِهِ أَهْدی «3».
و الكبكبة تدهور الشی‌ء فی هوة «4» قال تعالی: فَكُبْكِبُوا فِیها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94) «5».
______________________________
(1) الزمر: 29.
(2) النمل: 90.
(3) الملك: 22.
(4) الراغب، المفردات: 420.
(5) الشعراء: 94.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 168
و هذه الصیغة قد حملت اللفظ فی تكرار صوتها، زیادة معنی التدهور لما أفاده الزمخشری (ت: 538 ه) بقوله: «إن الزیادة فی البناء لزیادة المعنی» «1».
و قال العلامة الطیبی (ت: 743 ه):
«كرر الكب دلالة علی الشدة» «2».
و من هنا نفید أن دلالة الفزع فیما تقدم من ألفاظ أریدت بحد ذاتها لتهویل الأمر، و تفخیم الدلالة، و هذا أمر مطرد فی القرآن، و قد یمثله قوله تعالی: فَغَشِیَهُمْ مِنَ الْیَمِّ ما غَشِیَهُمْ (87) «3».
و المادة نفسها قد توحی بشدة الإتیان و التوقع عند النوائب.

الإغراق فی مدّ الصوت و استطالته:

هنالك مقاطع صوتیة مغرقة فی الطول و المد و التشدید و بالرغم من ندرة صیغة هذه المركبات الصوتیة فی اللغة العربیة حتی أنها لتعدّ بالأصابع، فإننا نجد القرآن الكریم یستعمل أفخمها لفظا، و أعظمها وقعا، فتستوحی من دلالتها الصوتیة مدی شدّتها و هدّتها، لتستنتج من ذلك أهمیتها و أحقیتها بالتلبث و الرصد و التفكیر.
من تلك الألفاظ: الحاقّة، الطّامة، الصّاخة. و قد تأتی مجرّدة عن التحریف فتهتدی إلی عمومیتها، مثل: دابّة. كافة.
هذه الصیغة صوتیا تمتاز بتوجه الفكر نحوها فی تساؤل، و اصطكاك السمع بصداها المدوی، و أخیرا بتفاعل الوجدان معها مترقبا: الأحداث، المفاجئات، النتائج المجهولة.
الحاقّة و الطامة و الصاخّة: كلمات تستدعی نسبة عالیة من الضغط الصوتی، و الأداء الجهوری لسماع رنتها، مما یتوافق نسبیا مع إرادتها فی
______________________________
(1) الزمخشری، الكشاف: 1/ 41.
(2) الطیبی، التبیان فی علم المعانی و البدیع و البیان: 474.
(3) طه: 78.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 169
جلجلة الصوت، و شدة الإیقاع، كل ذلك مما یوضع مجموعة العلاقات القائمة بین اللفظ و دلالته فی مثل هذه العائلة الصوتیة الواحدة، فإذا أضفنا إلی ذلك معناها المحدد فی كتاب الله تعالی، و هو یوم القیامة، خرجنا بحصیلة علمیة تنتهی بمصاقبة الشدة الصوتیة للشدة الدلالیة بین الصوت و المعنی الحقیقی، فقوله تعالی: الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) «1». إشارة إلی یوم القیامة، و علم علیها فیما أفاد العلماء، قال الفرّاء (ت: 207 ه): «و الحاقة: القیامة، سمیت بذلك لأن فیها الثواب و الجزاء» «2».
و قال الطبرسی (ت: 548 ه) «الحاقة اسم من أسماء القیامة فی قول جمیع المفسرین، و سمیت بذلك، لأنها ذات الحواق من الأمور، و هی الصادقة الواجبة الصدق، لأن جمیع أحكام القیامة واجبة الوقوع، صادقة الوجود. و قیل: سمیت القیامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم: حاققته فحققته، مثل: خاصمته فخصمته» «3».
و قیل: لأنها تحقق كل إنسان بعمله. و یقال: حقّت القیامة: أحاطت بالخلائق فهی حاقة «4». فإذا رصدت الصاخة، رأیتها القیامة أیضا، و به فسر أبو عبیدة (ت: 210 ه) قوله تعالی: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) «5». فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ یصخ، و إما أن تكون مصدرا و قال أبو إسحاق الزجاج: الصاخة هی الصیحة التی تكون فیها القیامة تصخ الأسماع، أی: تصمها فلا تسمع.
و قال ابن سیده: الصاخة: صیحة تصخ الأذن أی تطعنها فتصمها لشدتها، و منه سمیت القیامة.
و یقال: كأن فی أذنه صاخة، أی طعنة «6».
______________________________
(1) الحاقة: 1- 3.
(2) الفراء، معانی القرآن: 3/ 179.
(3) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 342- 343.
(4) ظ: الطریحی، مجمع البحرین: 5/ 147.
(5) عبس: 33.
(6) ابن منظور، لسان العرب: 4/ 2.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 170
و قال الطریحی (ت: 1085 ه) الصاخة بتشدید الخاء یعنی القیامة، فإنها تصخ الأسماع، أی تقرعها و تصمها، یقال: رجل أصخ، إذا كان لا یسمع «1». و المعانی كلها متقاربة فی الدلالة، إلا أن الراغب (ت: 502 ه) یعطی الصاخة دلالة أعمق فی الإرادة الصوتیة المنفردة فیقول: الصاخة شدة صوت ذی المنطق «2».
فیكون استعمالها حینئذ فی القیامة علی سبیل المجاز. فإذا وقفنا عند الطامة، فهی القیامة تطم علی كل شی‌ء «3». و إلیه ذهب الزجاج: الطامة هی الصیحة التی تطم علی كل شی‌ء «4». و تسمی الداهیة التی لا یستطاع دفعها:
طامة «5». قال تعالی: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْری (34) «6» قال الطبرسی (ت:
548 ه) «و هی القیامة لأنها تطم كل داهیة هائلة، أی تعلو و تغلب، و من ذلك قیل: ما من طامّة إلا و فوقها طامة، و القیامة فوق كل طامة، فهی الداهیة العظمی» «7».
و لعل اختیار الطبرسی للداهیة فی تفسیر الطامة باعتبارها داهیة لا یستطاع دفعها، و لأن القیامة تطم كل داهیة هائلة، لا یخلو من وجه عربی أصیل، فالعرب استعملت الطامة فی الداهیة العظیمة تغلب ما سواها، و أیة داهیة أعظم من القیامة لا سیما و هی توصف هنا بالكبری.
إن موافقة أصوات الحاقة و الصاخة و الطامة لمعانیها فی الدلالة علی یوم القیامة، من أعظم الدلالات الصوتیة فی الشدة و الوقع و التلاؤم البنیوی و المعنوی لمثل هذه الصیغة الحافلة.
و دلالة هذه الصیغة فی: دابة، و كافة، علی الشمول و الكلیة المطلقة یوحی بالمضمون نفسه فی الإیقاع الصوتی، قال تعالی:
______________________________
(1) الطریحی مجمع البحرین: 2/ 437.
(2) الراغب، المفردات: 275.
(3) الفراء، معانی القرآن: 3/ 234.
(4) ابن منظور، لسان العرب: 15/ 263.
(5) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 433.
(6) النازعات: 34.
(7) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 434.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 171
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِی الْأَرْضِ إِلَّا عَلَی اللَّهِ رِزْقُها وَ یَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِی كِتابٍ مُبِینٍ (6) «1» فشمل الخلائق كلها، و أصناف الأجناس المرئیة و غیر المرئیة مما یدب أدركناه أو لم ندركه، علمنا طبیعة رزقه أو لم نعلم و قوله تعالی: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِیراً وَ نَذِیراً (28) «2». یدل أن هذا الرسول العربی الأمین، لم یختص بزمنیة، و لم یبعث لطبقة خاصة، فتخطی برسالته حدود الزمان و المكان، فكانت عالمیة السیرورة، إنسانیة الأحیاء، البشارة فی ید، و النذارة فی ید، لینقذ العالم أجمع من خلال هاتین.

الصیغة الصوتیة الواحدة:

و ظاهرة أخری جدیرة بالعنایة و التلبث، هی تسمیة الكائن الواحد، و الأمر المرتقب المنظور، بأسماء متعددة ذات صیغة واحدة، بنسق صوتی متجانس، للدلالة بمجموعة مقاطعه علی مضمونه، و بصوتیته علی كنه معناه، و من ذلك تسمیة القیامة فی القرآن بأسماء متقاربة الصدی، فی إطار الفاعل المتمكن، و القائم الذی لا یجحد.
هذه الصیغة الفریدة تهزك من الأعماق، و یبعثك صوتها من الجذور، لتطمئن یقینا إلی یوم لا مناص عنه، و لا خلاص منه، فهو واقع یقرعك بقوارعه، و حادث یثیرك برواجفه ... الصدی الصوتی، و الوزن المتراص، و السكت علی هائه أو تائه القصیرة تعبیر عما ورائه من شئون و عوالم و عظات و عبر و متغیرات فی:
الواقعة/ القارعة/ الآزفة/ الراجفة/ الرادفة/ الغاشیة، و كل معطیك المعنی المناسب للصوت و الدلالة المنتزعة من اللفظ، و تصل مع الجمیع إلی حقیقة نازلة واحدة.
1- الواقعة، قال تعالی: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَیْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) «3».
______________________________
(1) هود: 6.
(2) سبأ: 28.
(3) الواقعة: 1- 2.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 172
و قال تعالی: فَیَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) «1».
قال الخلیل: وقع الشی‌ء یقع وقوعا، أی: هویا.
و الواقعة النازلة الشدیدة من صروف الدهر «2».
و قال الراغب (ت: 502 ه) الوقوع ثبوت الشی‌ء و سقوطه، و الواقعة لا تقال إلا فی الشدة و المكروه، و أكثر ما جاء فی القرآن من لفظ وقع:
جاء فی العذاب و الشدائد «3».
و قال الطبرسی (ت: 548 ه) فی تفسیره للواقعة: «و الواقعة اسم القیامة كالآزفة و غیرها، و المعنی إذا حدثت الحادثة، و هی الصیحة عند النفخة الأخیرة لقیام الساعة. و قیل سمیت بها لكثرة ما یقع فیها من الشدة، أو لشدة وقعها» «4». و قال ابن منظور (ت: 711 ه) الواقعة: الداهیة، و الواقعة النازلة من صروف الدهر، و الواقعة اسم من أسماء یوم القیامة «5».
و باستقراء هذه الأقوال، و مقارنة بعضها ببعض، تتجلی الدلالة الصوتیة، فالوقوع هو الهوی، و سقوط الشی‌ء من الأعلی، و الواقعة هی النازلة الشدیدة، و الواقعة هی الداهیة، و هی الحادثة، و هی الصیحة، و هی اسم من أسماء یوم القیامة، و أكثر ما جاء فی القرآن من هذه الصیغة جاء فی الشدة و العذاب، و صوت اللفظ یوحی بهذا المعنی، و إطلاقه بزنة الفاعل، و إسناده بصیغة الماضی، یدلان علی وقوعه فی شدته و هدته، و صیحته و داهیته.
2- القارعة قال تعالی: الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) «6».
و قال تعالی: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4) «7».
قال الخلیل (ت: 175- ه): و القارعة: القیامة. و القارعة: الشدة.
______________________________
(1) الحاقة: 15.
(2) الخلیل، العین 2/ 176.
(3) الراغب، المفردات: 530.
(4) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 214.
(5) ابن منظور، لسان العرب: 10/ 285.
(6) القارعة: 1- 3.
(7) الحاقة: 4.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 173
و فلان أمن قوارع الدهر: أی شدائده. و قوارع القرآن: نحو آیة الكرسی، یقال: من قرأها لم تصبه قارعة.
و كل شی‌ء ضربته فقد قرعته. قال أبو ذؤیب الهذلی «1».
حتی كأنی للحوادث مروةبصفا المشرق كل یوم تقرع قال الطبرسی: و سمیت القارعة، لأنها تقرع قلوب العباد بالمخافة إلی أن یصیر المؤمنون إلی الأمن «2». و القارعة اسم من أسماء القیامة لأنها تقرع القلوب بالفزع، و تقرع أعداء الله بالعذاب «3».
و إنما حسن أن توضع القارعة موضع الكنایة لتذكر بهذه الصفة الهائلة بعد ذكرها بأنها الحاقة «4».
و بمقارنة هذه المعانی، نجدها متقاربة الدلالة، فالقارعة الشدة، و قوارع الدهر شدائده، و كل شی‌ء ضربته فقد قرعته، و القارعة تقرع القلوب بالفزع، و قلوب العباد بالمخالفة، و أعداء الله بالعذاب، و هی فی موضع كنایة للتعبیر عن القیامة، من أجل التذكیر بصفة القرع، و كلها مفردات ایحائیة تؤذن بالقرع فی الأذن، و تفزع القلوب بالشدة، تتوالی خلالها المترادفات و المشتركات، لتنتقل بك إلی عالم الواقعة، و هی مجاورة لها فی الشدة و الهول و الصدی و الإیقاع.
3- الآزفة، قال تعالی: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَیْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) «5».
و قال تعالی: وَ أَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَی الْحَناجِرِ كاظِمِینَ ما لِلظَّالِمِینَ مِنْ حَمِیمٍ وَ لا شَفِیعٍ یُطاعُ (18) «6».
قال الراغب: معناه: أی دنت القیامة .. فعبر عنها بلفظ الماضی لقربها و ضیق وقتها «7».
______________________________
(1) الخلیل، العین: 1/ 156.
(2) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 342.
(3) المصدر نفسه: 5/ 532.
(4) المصدر نفسه: 5/ 343.
(5) النجم: 57- 58.
(6) المؤمن: 18.
(7) الراغب، المفردات: 17.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 174
و قال الطبرسی: وَ أَنْذِرْهُمْ یَوْمَ الْآزِفَةِ (18) «1». أی الدانیة. و هو یوم القیامة، لأن كل ما هو آت دان قریب «2».
قال الزمخشری: و الآزفة القیامة لأزوفها «3».
و فی اللغة: الآزفة القیامة، و إن استبعد الناس مداها «4».
و فی الآزفة: الدانیة من قولهم أزف الأمر إذا دنا وقته «5».
ورقة الآزفة فی لفظها بانطلاق الألف الممدودة من الصدر، و صفیر الزای من الأسنان، و انحدار الفاء من أسفل الشفة، و السكت علی الهاء منبعثة من الأعماق، و كالرقة فی معناها فی الدنو و الاقتراب و حلول الوقت، و مع هذه الرقة فی الصوت و المعنی، إلا أن المراد من هذه الصفیر أزیزه، و من هذا التأفف هدیره و رجیفه، فأدناه یوم القیامة غیر إدناء الحبیب، و اقتراب الساعة غیر اقتراب المواعید، أنه دنو الیوم الموعود، و الحالات الحرجة، و الهدیر النازل، إنه یوم القیامة فی شدائده، فكانت الآزفة كالواقعة و القارعة.
4- الراجفة و الرادفة، قال تعالی: یَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) «6» و تبدأ القیامة بالراجفة، و هی النفخة الأولی (تتبعها الرادفة) و هی النفحة الثانیة «7».
و هو المروی عن ابن عباس و مجاهد و الحسن و قتادة و الضحاك «8».
قال الزمخشری (ت: 538 ه) «الراجفة: الواقعة التی ترجف عندها الأرض و الجبال و هی النفحة الأولی، وصفت بما یحدث بحدوثها (تتبعها الرادفة) أی الواقعة التی تردف الأولی، و هی النفحة الثانیة، أی القیامة التی یستعجلها الكفرة، استبعادا لها و هی رادفة لهم لاقترابها. و قیل الراجفة: الأرض و الجبال من قوله- یوم ترجف الأرض و الجبال- و الرادفة
______________________________
(1) المؤمن: 18.
(2) الطبرسی: مجمع البیان: 4/ 518.
(3) الزمخشری، أساس البلاغة: 5.
(4) ابن منظور، لسان العرب: 1/ 346.
(5) الطبرسی، مجمع البیان: 4/ 518.
(6) النازعات: 6- 7.
(7) الفراء معانی القرآن: 3/ 231.
(8) ابن كثیر، تفسیر القرآن العظیم: 4/ 467.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 175
السماء و الكواكب لأنها تنشق و تنتثر كواكبها إثر ذلك» «1». و قال الطبرسی (ت: 548 ه) الراجفة: یعنی النفخة الأولی التی یموت فیها جمیع الخلائق، و الراجفة صیحة عظیمة فیها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض (تتبعها الرادفة) یعنی النفخة الثانیة تعقب النفخة الأولی، و هی التی یبعث معها الخلق «2».
و بمتابعة هذه المعانی: النفخة الأولی، النفخة الثانیة، الصیحة، التردد، الاضطراب، الواقعة التی ترجف عندها الأرض و الجبال، الواقعة التی تردف الراجفة، و انشقاق السماء، انتثار الكواكب، الرعد إذا تمخض، بعث الخلائق و انتشارهم ... الخ.
بمتابعة أولئك جمیعا یتجلی العمق الصوتی فی المراد كتجلیه فی الألفاظ دلالة علی الرجیف و الوجیف، و التزلزل و الاضطراب، و تغییر الكون، و تبدل العوالم یَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَیْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) «3».
فتعاقبت معالم الراجفة و الرادفة مع معالم الواقعة و القارعة و الآزفة، و تناسبت دلالة الأصوات مع دلالة المعانی فی الصدی و الأوزان.
5- الغاشیة، قال تعالی: هَلْ أَتاكَ حَدِیثُ الْغاشِیَةِ (1) «4». و هو خطاب للنبی صلی اللّه علیه و آله و سلم یرید قد أتاك حدیث یوم القیامة بغتة عن ابن عباس و الحسن و قتادة «5».
قال الراغب (ت: 502 ه) الغاشیة كنایة عن القیامة و جمعها غواش «6».
و قال الزمخشری (ت: 538 ه): الغاشیة الداهیة التی تغشی الناس بشدائدها و تلبسهم أهوالها، یعنی القیامة «7».
______________________________
(1) الزمخشری، الكشاف: 4/ 212.
(2) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 430.
(3) إبراهیم: 48.
(4) الغاشیة: 1.
(5) الطبرسی، مجمع البیان: 5/ 478.
(6) الراغب، المفردات: 361.
(7) الزمخشری، الكشاف: 4/ 246.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 176
و قال ابن منظور (ت: 711 ه) الغاشیة القیامة، لأنها تغشی الخلق بأفزاعها، و قیل الغاشیة: النار لأنها تغشی وجوه الكفار. و قیل للقیامة غاشیة: لأنها تجلل الخلق فتعمهم «1».
و بمقارنة هذه الأقوال، و ضم بعضها إلی بعض، یبدو أن الغاشیة كنی بها عن القیامة لأنها تغشی الناس بأهوالها، و تعم الخلق بأفزاعها، فهی تجللهم الإحاطة من كل جانب، و قد تكون هی النار التی تغشی وجوه الكفار، و هی الداهیة التی تغشی الناس بشدائدها، و تلبسهم أهوالها ... إلخ.
إذن، ما أقرب هذا المناخ المفزع، و الأفق الرهیب لمناخ الواقعة و القارعة و الآزفة و الراجفة و الرادفة، إنه منطلق واحد، فی صیغة واحدة، صدی هائل تجتمع فیه أهوالها، و صوت حافل تتساقط حوله مصاعبها تتفرق فیه الألفاظ لتدل فی كل الأحوال علی هذه الحقیقة القادمة، حقیقة یوم القیامة برحلتها الطویلة، فی الشدائد، و النوازل، و القوارع، و الوقائع، لتصور لنا عن كثب هیجانها و غلیانها، و شمولها و إحاطتها:
بَلْ یُرِیدُ الْإِنْسانُ لِیَفْجُرَ أَمامَهُ (5) یَسْئَلُ أَیَّانَ یَوْمُ الْقِیامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9) یَقُولُ الْإِنْسانُ یَوْمَئِذٍ أَیْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لا وَزَرَ (11) إِلی رَبِّكَ یَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) «2».

دلالة الصدی الحالم:

تنطلق فی القرآن أصداء حالمة، فی ألفاظ ملؤها الحنان، تؤدی معناها من خلال أصواتها، و توحی بمؤداها مجردة عن التصنیع و البدیع، فهی ناطقة بمضمونها هادرة بإرادتها، دون إضافة و إضاءة، و ما أكثر هذا المنحنی فی القرآن، و ما أروع توالیه فی آیاته الكریمة، و لنأخذ عینة علی هذا فنقف عند الرحمة من مادة «رحم» فی القرآن الكریم بجزء من إرادتها، و لمح من هدیها.
قال تعالی: أُولئِكَ عَلَیْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ «3».
______________________________
(1) ابن منظور، لسان العرب: 19/ 362.
(2) القیامة: 5- 12.
(3) البقرة: 157.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 177
و قال تعالی: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَیْرٌ مِمَّا یَجْمَعُونَ «1».
و قال تعالی: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ «2».
و قال تعالی: كهیعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِیَّا (2) «3».
و قال تعالی: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِی وَ لِأَخِی وَ أَدْخِلْنا فِی رَحْمَتِكَ «4».
و قال تعالی: وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّیانِی صَغِیراً (24) «5».
فأنت تنادی من صدی «الرحمة» بأزیز حالم، و تحتفل من صوتها بنداء یأخذ طریقه إلی العمق النفسی، یهز المشاعر، و یستدعی العواطف، ناضحا بالرضا و الغبطة و البهجة، رافلا بالخیر و الإحسان و الحنان، فما ذا یرجو أهل الإیمان أكثر من اقتران صلوات ربهم برحمته بهم و علیهم، و لمغفرة من اللّه تعالی و رحمة خیر مما تجمع خزائن الأرض و كنوزها، و هذا محمد صلی اللّه علیه و آله و سلم ذو الخلق العظیم، و المخائل الفذة، لو لا رحمة ربه لما لإن لهؤلاء القوم الأشداء فی غطرستهم و غلظتهم، و هذا زكریا تتداركه رحمة من اللّه و بركات فی أوج احتیاجه و فزعه إلی اللّه عزّ و جلّ: إِذْ نادی رَبَّهُ نِداءً خَفِیًّا (3) «6».
فیهب له یحیی وَ اللَّهُ یَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ «7».
و وقفة مستوحیة عند الأبوین الكریمین وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّیانِی صَغِیراً (24) «8». فستلمس صیغة الرحمة قد تجلت بأرق مظاهرها الصادقة و أرقاها، توجیه رحیم، و استعارة هادفة، و عاطفة مهذبة، فقد اقترنت الرحمة بالاسترحام، و خفض الجناح بتواضع بل بذل إشفاقا و حنوا و حدبا، فكما یخفض الطائر الوجل أو المطمئن السارب جناحیه حذرا أو عطفا أو احتضانا لصغاره حبا بهم، أو صیانة لهم من كل الطوارئ، أو هما معا، فكذلك رحمة الولد البار بوالدیه شفقة و رعایة، مواساة و معناة، فی حالتی الصحة و السقم، الرضا و الغضب،
______________________________
(1) آل عمران: 157.
(2) آل عمران، 159.
(3) مریم: 1- 2.
(4) الأعراف: 151.
(5) الإسراء: 24.
(6) مریم: 3.
(7) البقرة: 105.
(8) الإسراء: 24.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 178
الدعة و الاحتیاج، یضاف إلی ذلك الدعاء من الأعماق «و قل رب ارحمهما» مجازاة علی تربیته صغیرا، و الرحمة و ارحمهما، لفظان متلازمان فی بحة الحاء المنطلقة من الصدر فهی صوتیا مثلها دلالیا من القلب و إلی القلب، و من الشغاف إلی الشغاف، و هنا یظهر أن الرحمة ظاهرة واقعیة تنبعث من داخل النفس الإنسانیة، فیتفجر بها الضمیر الحی النابض بالطهارة و النقاء و الحب السرمدی، فهی إذن لا تفرض من الخارج بالقوة و القهر و الاستطالة، و إنما سبیلها سبیل الماء المتدفق من الأعالی لأنها صفة ملائكیة، تمزج الإنسانیة بالصفاء الروحی.
«و الرحمة رقة تقتضی الإحسان إلی المرحوم، و قد تستعمل تارة فی الرقة المجردة، و تارة فی الإحسان المجرد عن الرقة نحو: رحم اللّه فلانا.
و إذا وصف به الباری فلیس یراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة، و علی هذا روی أن الرحمة من اللّه إنعام و إفضال، و من الآدمیین رقة و تعطف» «1».
فاللّه تعالی تفرد بالإحسان فی رحمته إلی رعیته فجاء له الحمد مساوقا لهذه الرحمة الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ (3) «2». و نشر الرقة بین البشر فی الطباع لِیُدْخِلَ اللَّهُ فِی رَحْمَتِهِ مَنْ یَشاءُ «3».
و لو تابعنا أصل المادة لغویا لوجدنا ملاءمتها للمعنی صوتیا فی الرقة و اللحمة و التناسب، فالرحم رحم المرأة، قال تعالی: هُوَ الَّذِی یُصَوِّرُكُمْ فِی الْأَرْحامِ كَیْفَ یَشاءُ «4». و منه استعیر الرحم للقرابة لكونهم من رحم واحدة نسبیا، لذلك قال تعالی: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلی بِبَعْضٍ «5». و لو لا قرابتهم لما كانت الولایة بینهم.
فكان الالتصاق فی الرحم قد نشر الالتصاق بالولایة من جهة، و جدد الرحمة بالرقة و المودة و العطف الكریم.
______________________________
(1) الراغب: المفردات: 191.
(2) الفاتحة: 2- 3.
(3) الفتح: 25.
(4) آل عمران: 6.
(5) الأنفال: 75.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 179

دلالة النغم الصارم:

أصوات الصفیر فی وضوحها، و أصداؤها فی أزیزها، جعل لها وقعا متمیزا ما بین الأصوات الصوامت، و كان ذلك- فیما یبدو لی- نتیجة التصاقها فی مخرج الصوت، و اصطكاكها فی جهاز السمع، و وقعها الحاصل ما بین هذا الالتصاق و ذلك الاصطكاك، هذه الأصوات ذات الجرس الصارخ هی: الزای، السین، الصاد، یلحظ لدی استعراضها أنها تؤدی مهمة الإعلان الصریح عن المراد فی تأكید الحقیقة، و هی بذلك تعبر عن الشدة حینا، و عن العنایة بالأمر حینا آخر، مما یشكل نغما صارما فی الصوت، و أزیزا مشددا لدی السمع، یخلصان إلی دلالة اللفظ فی إرادته الاستعمالیة، و مؤداه عند إطلاقه فی مظان المعنی.
و سأقف عند ثلاث صیغ قرآنیة ختمت بحروف الصفیر، لرصد أبعادها الصوتیة، هی: «رجز» و «رجس» و «حصحص».
1- الرجز، فی مثل قوله تعالی: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِیمٌ «1».
و قوله تعالی: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ «2».
و قوله تعالی: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ «3».
و یظهر فی أصل الرجز الاضطراب لغة، فتلمس فیه الزلزلة فی ارتجاجها، و الهدة عند حدوثها، و النازلة فی وقوعها، و لما كان القرآن العظیم یفسر بعضه بعضا، فإننا نأنس علی هذه المعانی فی كل من قوله تعالی:
فَأَنْزَلْنا عَلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ (59) «4».
و قوله تعالی: فَأَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا یَظْلِمُونَ «5».
______________________________
(1) سبأ: 5.
(2) الأعراف: 134.
(3) الأعراف: 135.
(4) البقرة: 59.
(5) الأعراف: 162.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 180
و قوله تعالی: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلی أَهْلِ هذِهِ الْقَرْیَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا یَفْسُقُونَ (34) «1». و نستظهر فی الرجز الإرسال و الإنزال من السماء بضرس قاطع و أمر كائن باعتبار آخر العلاج بعد التحذیر و الإنذار.
2- و حینما نقارن لفظ «الرجز» بمثیله معنی و مبنی «رجس» و هی مكونة كتكوینها فی الراء و الجیم، و السین كالزای من حروف الصفیر شدیدة الاحتكاك فی مخرج الصوت، و لها ذات الإیقاع علی الأذن، حینما نقارن صوتیا و دلالیا بین الصوتین نجد المقاطع واحدة عند الانطلاق من أجهزة الصوت، و نجد المعانی متقاربة فی الإفادة، فقد قیل للصوت الشدید:
رجس و رجز، و بعیر رجاس شدید الهدیر، و غمام راجس و رجاس شدید الرعد.
قال تعالی: قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَیْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ (71) «2».
و قال تعالی: وَ یَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَی الَّذِینَ لا یَعْقِلُونَ «3».
كل هذه الاستعمالات متواكبة دلالیا فی ترصد العذاب و صبّه و إنزاله، و هذا لا یمانع من أن تضاف للرجس جملة من المعانی الأخری لإرادة الدنس و القذارة و مرض القلوب، و حالات النفس المتقلبة، نرصد ذلك فی كل من قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَیْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «4».
و قال تعالی: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «5».
و قال تعالی: إِنَّما یُرِیدُ اللَّهُ لِیُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَكُمْ تَطْهِیراً «6».
و قال تعالی: وَ أَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَی رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125) «7».
______________________________
(1) العنكبوت: 34.
(2) الأعراف: 71.
(3) یونس: 100.
(4) المائدة: 90.
(5) الحج: 30.
(6) الأحزاب: 33.
(7) التوبة: 125.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 181
فالصوت فی المعانی كلها الصوت نفسه، و الصدی ذات الصدی، و من هنا أورد الراغب (ت: 502 ه): أن الرجس یقع علی أربعة أوجه:
إما من حیث الطبع، و إما من جهة العقل، و إما من جهة الشرع، و إما من كل ذلك. و الرجس من جهة الشرع الخمر و المیسر، و قیل: إن ذلك رجس من جهة العقل، و جعل اللّه تعالی الكافرین رجسا من حیث أن الشرك بالعقل أقبح الأشیاء «1».
3- و حینما نقف عند الصاد فی مثل قوله تعالی:
قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِیزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ «2». فإننا نستمع إلی الصوت المدوّی، إذ كانت الصاد واضحة الصدور من المخرج الصوتی. فكانت «حصحص» واضحة الظهور بانكشاف الأمر فیما یقهره علی الإذعان، و هنا قد یمتلكك العجب لدی اختیار هذا اللفظ فی أزیزه، و وضوح أمره مع القهر، فلا تردّ دلائله، و لا تخبو براهینه.
فإذا شددت الصاد كانت دلالتها الصوتیة، و إرادتها المعنویة، أوضح لزوما، و أشد استظهارا، و أكثر إمعانا كما فی قوله تعالی: أَ فَلا یَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِی الْقُبُورِ (9) وَ حُصِّلَ ما فِی الصُّدُورِ (10) «3».
فالتحصیل إخراج اللب من القشور، كإخراج الذهب من حجر المعدن، و البر من السنابل، فهو إظهار لما فیها كإظهار اللب من القشر، أو كإظهار الحاصل من الحساب «4».
و الصوت فی صیغة الإرعاب، و فی سیاق الوعید، قد تلمس فیه نزع ما فی القلوب من أسرار، و استخراج ما فیها من خفایا، دون طواعیة من أصحابها؟؟
و قد یعطی دوی العبارة، و هیكل البیان، صیغة الإنذار، و أنت تصطدم بالوقوف عند السین من حروف الصفیر فی قوله تعالی:
______________________________
(1) ظ: الراغب، المفردات: 188.
(2) یوسف: 51.
(3) العادیات: 9- 10.
(4) ظ: الراغب، المفردات: 121.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 182
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّیْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) «1».

الصوت بین الشدة و اللین:

و لا نرید بهذا الملحظ المظاهر الصوتیة للحروف الشدیدة أو حروف اللین، و إنما نرید الدلالة الأصواتیة للكلمات و هی تتشكل فی سیاق یمثل الشدة حینا، و الرقة حینا آخر، فی دلالة تشیر إلی أحدهما أولهما فی ذات اللفظ، أو جملة العبارة.
و من فضیلة النظم القرآنی أن تنتظم هذه الظاهرة فی الصوائت و الصوامت من الأصوات، و الصوائت ما ضمت حروف العلة عند علماء الصرف، و هی: الألف و الیاء و الواو، و الصوامت بقیة حروف المعجم، و هی الصحیحة غیر المعتلة.
و یبدو أن الأصوات الصائتة بعد هذا هی الأصوات المأهولة بالانفتاح المتكامل لمجری الهواء، فتنطلق دون أی دوی أو ضوضاء، و تصل إلی الأسماع مؤثرة فیها تأثیرا تلقائیا فی الوضوح و الصفاء، و علة ذلك انبساطها مسترسلة دون تضیق فی المخارج.
و یتضح من هذا أن الأصوات الصامتة ما كانت بخلاف ذلك فهی تتسم بتضیّق مجری الهواء و اختلاسه، فتنطلق أصواتها بأصداء ممیزة تختلف شدة و ضعفا بحسب مخارجها فتحدث الضوضاء من خلالها نتیجة احتباس الهواء بقدر ما.
ففی الصوائت نلحظ قوله تعالی: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) «2». فی اقتران الواو و الألف فی موضع واحد من سوی و تقوی، كما نلحظ اقتران الیاء و الألف فی سقیا من قوله تعالی:
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْیاها (13) «3».
______________________________
(1) التكویر: 15- 18.
(2) الشمس: 7- 8.
(3) الشمس: 13.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 183
فتجد استطالة هذین الحرفین فی كلا الموضعین، لا یصدهما شی‌ء صوتیا، و هما یتراوحان دلالیا فی ألفاظ تحتكم الشدة و اللین، فالتذكیر بخلق النفس الإنسانیة قسما إلی جنب عملها بین الفجور و التقوی، و التحذیر من الناقة إلی جنب التحذیر من منع السقیا.
و فی الصوامت تجد مادة «مسّ» فی القرآن بأزیزها الحالم، و صوتها المهموس، و نغمها الرقیق، نتیجة لتضعیف حرف الصفیر، أو التقاء حرفیه متجاورین كقوله تعالی: وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ (35) «1».
هذه المادة فی رقتها صوتیا، و شدتها دلالیا، تجمع بین جرس الصوت الهادئ، و بین وقع الألم الشدید، فالمس یطلق- عادة- و یراد به كل ما ینال الإنسان من أذی و مكروه فی سیاق الآیات التالیة:
قال تعالی: إِنْ یَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ «2» و قال تعالی: وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ (33) «3».
و قال تعالی: فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا (49) «4» و قال تعالی: وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ (10) «5».
و قال تعالی: وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ «6».
و قال تعالی: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِیما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ (68) «7».
و قال تعالی: وَ أَیُّوبَ إِذْ نادی رَبَّهُ أَنِّی مَسَّنِیَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِینَ (83) «8» فهذه الصیغ المختلفة من المادة، أوردناها للدلالة علی شدة البلاء،
______________________________
(1) النور: 35.
(2) آل عمران: 140.
(3) الروم: 33.
(4) الزمر: 49.
(5) هود: 10.
(6) الأنبیاء: 46.
(7) الأنفال: 68.
(8) الأنبیاء: 83.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 184
و وقع المصاب، و فرط الأذی، و اللفظ فیها رفیق رقیق، و لكن المعنی شدید غلیظ.
و للدلالة علی هذا الملحظ، فقد وردت المادة فی صوتها الحالم هذا مقترنة بالمس الرفیق لاستخلاص الأمرین فی حالتی، السراء و الضراء الشر و الخیر، كما فی كل من قوله تعالی:
أ- وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ «1».
ب- إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذا مَسَّهُ الْخَیْرُ مَنُوعاً (21) «2».
فالضراء تمسهم إذن، و السراء تمسهم كذلك، و الشر یمسهم و الخیر كذلك، و لم یشأ القرآن العظیم تغییر المادة بل اللفظ عینه فی الحالتین، و ذلك للتعبیر عن شدة الملابسة و الملامسة و الالتصاق.
و كما ورد اللفظ فی مقام الضر منفردا فی أغلب الصیغ، و ورد مثله جامعا لمدركی الخیر و الشر، فقد ورد للمس الجمیل خاصة فی قوله تعالی: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ «3».
و قد ینتقل هذا اللفظ بدلائله إلی معان آخر، لا علاقة لها بهذا الحدیث دلالیا، و إن تعلقت به صوتیا، كما فی إشارة القرآن إلی المس بمعنیین مختلفین أخریین.
الأول: كنی فیه بالمس عن النكاح فی كل من قوله تعالی:
أ- قالَتْ أَنَّی یَكُونُ لِی غُلامٌ وَ لَمْ یَمْسَسْنِی بَشَرٌ (20) «4».
ب- لا جُناحَ عَلَیْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ (236) «5».
الثانی: و قد عبر فیه بالمس عن الجنون كما فی قوله تعالی:
______________________________
(1) الأعراف: 95.
(2) المعارج: 19- 21.
(3) آل عمران: 120.
(4) مریم: 20.
(5) البقرة: 236.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 185
الَّذِینَ یَأْكُلُونَ الرِّبا لا یَقُومُونَ إِلَّا كَما یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ (275) «1».
و قد اجتمعت كلها فی طبیعة الصوت.

الألفاظ دالة علی الأصوات:

توافرت طائفة من الألفاظ الدقیقة عند إطلاقها فی القرآن، و تتمیز هذه الدقة بكون اللفظ یدل علی نفس الصوت، و الصوت یتجلی فیه ذات اللفظ، بحیث یستخرج الصوت من الكلمة، و تؤخذ الكلمة منه، و هذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعانی بما یشكل أصواتها، فتكون أصوات الحروف علی سمت الأحداث التی یراد التعبیر عنها.
یقول ابن جنی (ت: 392 ه) «فأما مقابلة الألفاظ بما یشكل أصواتها من الأحداث فباب عظیم واسع، و نهج متلئب عند عارفیه مأموم، و ذلك أنهم كثیرا ما یجعلون أصوات الحروف علی سمت الأحداث المعبر عنها، فیعدلونها بها، و یحتذونها علیها، و ذلك أكثر مما نقدره، و أضعاف ما نستشعره، و من ذلك قولهم: «خضم و قضم، فالخضم لأكل الرطب ...
و القضم لأكل الیابس» «2».
و نضع فیما یأتی أمثلة لهذا الملحظ فی بعض ألفاظ القرآن العظیم:
1- مادة «خر» توحی فی القرآن بدلالتها الصوتیة بأن هذا اللفظ جاء متلبسا بالصوت علی سمت الحدث فی كل من قوله تعالی:
أ- وَ مَنْ یُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ «3».
ب- فَخَرَّ عَلَیْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ «4».
ج- فَلَمَّا خَرَّ تَبَیَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا یَعْلَمُونَ الْغَیْبَ (14) «5».
______________________________
(1) البقرة: 275.
(2) ابن جنی، الخصائص: 1/ 65.
(3) الحج: 31.
(4) النحل: 26.
(5) سبأ: 14.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 186
د- فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) «1».
فإن هذا اللفظ و قد جاء بصیغة واحدة فی عدة استعمالات، یدل بمجملة علی السقوط و الهوی، و هذا السقوط، و ذلك الهوی: مصحوبان بصوت ما، و هذا الصوت هو الخریر، و الخریر هو صوت الماء، أو صوت الریح، أو صوتهما معا، فالحدث علی هذا مستل من جنس الصوت، و من هنا یستشعر الراغب (ت: 502 ه) دلالة اللفظ الصوتیة فیقول:
«فمعنی خرّ سقط سقوطا یسمع منه خریر، و الخریر یقال لصوت الماء و الریح و غیر ذلك مما یسقط من علو،.
و قوله تعالی: خَرُّوا سُجَّداً «2» فاستعمال الخرّ تنبیه علی اجتماع أمرین: السقوط، و حصول الصوت منهم بالتسبیح، و قوله من بعده وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ «3». فتنبیه أن ذلك الخریر كان تسبیحا بحمد اللّه لا بشی‌ء آخر» «4».
و وجه الدلالة فیما یبدو أن الخرّ یأتی بمعنی السقوط من شاهق، و أن الخریر إنما یستعمل لصوت الماء أو الریح أو الصدی محاكیا لهذا اللفظ فی تردیده، فلم یرد مجرد السقوط من «خر» و إنما أراد الصوت مضافا إلیه الوقوع و الوجبة فی إحداث هذا الصوت، و كانت هذه الإضافة الدلالیة صوتیة سواء أ كانت فی صوت الماء، أم بالوقوع و السقوط، أم بالتسبیح.
و اللّه أعلم.
2- مادة «صرّ» فی كلمة «صر» من قوله تعالی:
كَمَثَلِ رِیحٍ فِیها صِرٌّ «5».
أو كلمة «صرصر» فی كل من قوله تعالی:
أ- وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِیحٍ صَرْصَرٍ عاتِیَةٍ (6) «6».
______________________________
(1) ص: 24.
(2) السجدة: 15.
(3) السجدة: 15.
(4) الراغب، المفردات: 144.
(5) آل عمران: 117.
(6) الحاقة: 6.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 187
ب- إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَیْهِمْ رِیحاً صَرْصَراً فِی یَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) «1».
هذه المادة فی هذه الصیغ الثلاث: مرفوعة، مجرورة، منصوبة، وردت فی القرآن و أنت تلمس فیها اصطكاك الأسنان، و تردید اللسان فالصاد فی وقعها الصارخ، و الراء المضعّفة، و التكرار للمادة فی صرصر، قد أضفی صیغة الشدة، و جسّد صورة الرهبة، فلا الدف‌ء بمستنزل، و لا الوقایة متیسرة، و ذلك ما یهد كیان الإنسان عند التماسه الملجأ فلا یجده، أو النجاة فلا یصل شاطئها، أو الوقایة من البرد القارس فلا یهتبلها.
فی لفظ «الصر» ذائقة الشتاء، و نازلة الثلوج، و أصوات الریاح العاتیة، مادة الصر إذن: كما عبر عنها الراغب (ت: 502 ه) «ترجع إلی الشدة لما فی البرودة من التعقد» «2».
قال الزمخشری (ت: 538 ه): «الصر الریح الباردة نحو الصرصر، و فیه أوجه:
أحدها: أن الصر فی صفة الریح بمعنی الباردة، فوصف بها القرة بمعنی فیها قرة صر، كما تقول: برد بارد علی المبالغة.
الثانی: أن یكون الصر مصدرا فی الأصل بمعنی البرد فیجی‌ء به علی أصله.
الثالث: أن یكون شبه ما كانوا ینفقون بالزرع الذی جسه البرد فذهب حطاما «3».
و لكننا نضع أیدینا علی الحس الصوتی فی اللغة، فیعطینا دلالة خاصة، مواكبة لسیاق الحدث فی هذا الصوت، فریح صر و صر صر شدیدة البرودة، و قیل: شدیدة الصوت، و صر و صرصر: صوت الصریر.
قال ابن الأنباری فی قوله تعالی: كَمَثَلِ رِیحٍ فِیها صِرٌّ «4». فیها أقوال: أحدها: فیها صر أی برد، و الثانی فیها تصویت و حركة.
______________________________
(1) القمر: 19.
(2) الراغب، المفردات: 279.
(3) الزمخشری، الكشاف: 1/ 457.
(4) آل عمران: 117.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 188
و الصرة أشد الصیاح تكون فی الطائر و الإنسان. و صر صماخه صریرا: صوّت من العطش، و صرصر الطائر: صوت.
و فی حدیث جعفر بن محمد الصادق علیه السلام و الصر عصفور أو طائر فی قده،
أصفر اللون سمی بصوته، یقال صر العصفور یصرّ إذا صاح و صر الجندب یصر صریرا، و صر الباب یصر، و كل صوت شبه ذلك فهو صریر إذا امتدّ، فإذا كان فیه تخفیف و ترجیع فی إعادة ضوعف كقوله: صرصر الأخطب صرصرة، كأنهم قدروا فی صوت الجندب المد، و فی صوت الأخطب الترجیع فحكوه علی ذلك «1».
فالصوت هنا ملازم ل (صر) و (صرصر) تارة فی الشدة، و أخری فی صوت الریح، و مثلها فی أشد الصیاح، و تارة فی التصویت من العطش، و سواها فی تصویت الطائر، و أهمها (الصر) سمی بصوته، و یلیه العصفور إذا صاح، و من ثم صریر الباب، و صر الجندب، و كل صوت یشبه ذلك فی التخفیف أو الترجیع.
و «صر» فی الآیات لیست بمعزل عن هذه المصادیق فی الشدة و الصوت و التصویت، و تسمیة الشی‌ء باسم صوته.
و الذكر الحكیم حافل بالألفاظ دالة علی الأصوات، جریا علی سنن العرب فی تسمیة اللفظ باسم صوته.
و اللّه تعالی أعلم.

اللفظ المناسب للصوت المناسب:

كل لفظ فی القرآن الكریم اختیر مكانه و موضعه من الآیة أو العبارة أو الجملة فإن غیره لا یسد مسدّه بداهة، فقد اختار القرآن اللفظ المناسب فی الموقع المناسب من عدة وجوه، و بمختلف الدلالات، إلا أن استنباط ذلك صوتیا یوحی باستقلالیة الكلمة المختارة لدلالة أعمق، و إشارة أدق، بحیث یتعذر علی أیة جهة فنیة استبدال ذلك بغیره، إذ لا یؤدی غیره المراد
______________________________
(1) ظ: ابن منظور، لسان العرب: مادة: صرر.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 189
الواعی منه، و ذلك معلم من معالم الإعجاز البیانی فی القرآن.
1- فی قوله تعالی: یا جِبالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَ الطَّیْرَ «1». جرس موسیقی حالم، و صدی صوتی عمیق، و إطلاق للأصوات من أقصی الحلق و ضمها للشفة ثم إعادة إطلاقها، فیما به یتعین موقع «أوبی» بحیث لا یسدّ مسدّها غیرها من الألفاظ، فالمراد بها ترجیع التسبیح من آب یئوب، علی جهة الإعجاز بحیث تسبح الجبال، و هو خلاف العادة، و خرق لنوامیس الكون فی تردید الأصوات من قبل ما لا یصوت، و لو استبدل هذا اللفظ فی غیر القرآن لعاد النظر مهلهلا، و الدلالة الصوتیة منعدمة.
قال الزمخشری (ت: 538 ه): «فإن قلت: أی فرق بین هذا النظم و بین أن یقال: و آتینا داود منا فضلا تأویب الجبال معه و الطیر؟ قلت: كم بینهما؟ أ لا تری إلی ما فیه من الفخامة التی لا تخفی من الدلالة علی عزة الربوبیة، و كبریاء الألوهیة، حیث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذین إذا أمرهم أطاعوا و أذعنوا، و إذا دعاهم سمعوا و أجابوا، إشعارا بأنه ما من حیوان و جماد، و ناطق و صامت إلا و هو منقاد إلی مشیئته، غیر ممتنع عن إرادته» «2».
و تقرأ الآیة: یا جِبالُ أَوِّبِی مَعَهُ وَ الطَّیْرَ (10) «3». بالتشدید، و تقرأ بالتخفیف، فمن قرأ (أوّبی) بالتشدید فمعناه: یا جبال سبحی معه، و رجعی التسبیح لأنه قال: سخرنا الجبال معه یسبحن، و من قرأ (أوبی) بالتخفیف، فمعناه: عودی معه بالتسبیح كلما عاد فیه «4».
فالنظام الصوتی بهذا هو الذی یحقق المعنی الجملی، فإن كانت (أوبی) بالتشدید، و هی القراءة المتعارفة، فالمراد: التسبیح فی تردیده و ترجیعه، و إن كانت بالتخفیف، فتعنی الرجوع و الأوبة، و علیه فالمراد إذن: العودة إلی التسبیح كلما عاد:
______________________________
(1) سبأ: 10.
(2) الزمخشری، الكشاف: 3/ 281.
(3) سبأ: 10.
(4) ظ: ابن منظور، لسان العرب:
1/ 212.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 190
2- فی قوله تعالی: مَثَلُ الَّذِینَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِیاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَیْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُیُوتِ لَبَیْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا یَعْلَمُونَ (41) «1». تبرز كلمة «أوهن» لتعطی معنی الضعف، و قد تحقق هذا المعنی كلمة (أوهی) و لكن القرآن الكریم استعمل أوهن دون أوهی، و ذلك لما یفرزه ضم حروف الحلق، و أقصی الحلق إلی النون من التصاق و غنة لا تتأتی بضم الألف المقصورة إلیها صوتیا، و حینئذ تصل الكلمة إلی الأسماع، و تصك الآذان، و هی تحمل لونا باهتا للعجز مؤكدا بضم هذه النون- من ملحظ صوتی فقط- إلی تلك الحروف لتحدث واقعا خاصا یشعر بالضعف المتناهی لا بمجرد الضعف وحده. و كان هذا بتأثیر مباشر من دلالة اللفظ الصوتیة، إذ أحدثت فیها النون و هی من الصوامت الأنفیة صدی و إیقاعا لا تحدثه الألف المقصورة و هی صوت حلقی خالص، لا غنة معه، و لا ضغط، و لا إطباق.
و هذا التشبیه باختیار هذا اللفظ صوتیا، یجمع إلیه إیحائیا دلالة أن الأصنام و الأشخاص و القیم اللاإنسانیة ... واهنة متداعیة عاجزة حتی عن حمایة كیانها، و صیانة وجودها، لأنها فی تكوین رخو واهن، و بناء تتداعی أركانه، و مثل هذا التكوین و ذلك البناء لا اعتماد علیهما، و لا اعتداد بهما، إنما القوة باللّه، و الحمایة من اللّه، و الالتجاء إلی اللّه فهو وحده الركن القویم.
قال الزمخشری (ت: 538 ه): «و قد صح أن أوهن البیوت بیت العنكبوت، و كما أن أوهن البیوت إذا استقریتها بیتا بیتا بیت العنكبوت، كذلك أضعف الأدیان إذا استقریتها دنیا دینا عبادة الأوثان لو كانوا یعلمون» «2».
و إذا كان القرآن الحكیم قد امتاز بتخیر الألفاظ و انتقائها، فإنه یرصد بذلك ما لهذه الألفاظ دون تلك:
«من قوة تعبیریة، بحیث یؤدی بها فضلا عن معانیها العقلیة، كل ما
______________________________
(1) العنكبوت: 41.
(2) الزمخشری، الكشاف: 3/ 206.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 191
تحمل فی أحشائها من صور مدخرة، و مشاعر كامنة، لفّت نفسها لفّا حول ذلك المعنی العقلی» «1».
و هو ما تنبّه إلیه الزمخشری فی تعلیله ذلك من ذی قبل.
3- و فی قوله تعالی: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَیْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا یَقْدِرُ عَلی شَیْ‌ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلی مَوْلاهُ أَیْنَما یُوَجِّهْهُ لا یَأْتِ بِخَیْرٍ هَلْ یَسْتَوِی هُوَ وَ مَنْ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلی صِراطٍ مُسْتَقِیمٍ (76) «2».
تنهض كلمة «كل» و هی صارخة مشرأبة، لتوحی عادة بمعنی العالة فی أبرز مظاهرها، و قد استعملها القرآن لإضاءة المعنی بما فیها من غلظة و شدة و ثقل، لهذا الصدی الصوتی الخاص المتولد من احتكاك الكاف و إطباق اللام علی اللهاة، و ما ینجم عن ذلك من رنة فی الذاكرة، و شدة علی السمع، فصوت الكاف فی العربیة، و هو من حروف الإطباق، شدید انفجاری مهموس، و صوت اللام فی العربیة، و هو من حروف الأسنان و اللثة، مجهور متوسط بین الشدة و الرخاوة «3».
و قد اجتمع المهموس و المجهور معا فی هذا اللفظ، فإذا علمنا أن المهموس هو الصوت الذی یظل النفس عند النطق به جاریا لا یعوقه شی‌ء، و أن المجهور هو الصوت الذی یمتنع النفس عن الجریان به عند النطق أدركنا سر اجتماع الكاف المهموسة و اللام المجهورة فی هذا اللفظ، و ما فی ذلك من عسر فی اللفظ دال علی عسر المعنی و غلظته.
یقول أستاذنا المخزومی: «فإذا اجتمع صوت مجهور، و آخر مهموس، فقد اجتمع صوتان مختلفان لكل منهما طبیعة خاصة، و الجمع بین هذین الصوتین یقتضی عضو النطق أن یعطی كل صوت منهما حقه، و فی ذلك عسر لا یخفی، فإذا تألفت كلمة و قد تجاور فیها صوتان، أحدهما مجهور، و الآخر مهموس، فما یزال أحدهما یؤثر فی الآخر حتی یصیرا مجهورین معا، أو مهموسین معا» «4».
______________________________
(1) تشارلتن، فنون الأدب: 76.
(2) النحل: 76.
(3) ظ: ابن جنی، سر صناعة الأعراب، 1/ 69.
(4) مهدی المخزومی، فی النحو العربی، قواعد و تطبیق: 8.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 192
لقد ظل النفس جاریا مستطیلا فی اللام عند مجاورتها للكاف، و زاد التشدید فی استطالتها، لتوحی الكلمة بأبعادها الصوتیة: بأن هذا العبد شؤم لا خیر معه، و بهیمة لا أمل بإصلاحه، فهو عالة و زیادة، بل هو «كل» بكل التفصیلات الصوتیة لهذا اللفظ.
لقد كان اختیار اللفظ المناسب للصوت المناسب حقلا یانعا فی القرآن لا للدلالة الصوتیة فحسب، بل لجملة من الدلالات الإیحائیة و اللغویة و الهامشیة، و تلك میزة القرآن الكریم فی تخیر الألفاظ.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 193

«خاتمة المطاف»

الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 195
بعد هذه الجولة الفسیحة فی أبعاد الصوت اللغوی فی القرآن الكریم، یجدر بی فی خاتمة المطاف أن أضع أبرز النتائج و الكشوفات العلمیة التی یسرها البحث.
كان الفصل الأول بعنوان: أبعاد الصوت اللغوی و قد بحثنا فیه:
1- مصطلح الصوت اللغوی، فأفضنا الحدیث عن الصوت لغة، و الصوت ذبذبة، و الصوت غنائیا، و الصوت عند الأصواتیین العرب، و انتهینا أن الصوت بوصفه لغویا یعنی فی هذه الدراسة المتخصصة: تتبع الظواهر الصوتیة لحروف المعجم العربی، و تطبیقها تنظیریا فی القرآن العظیم بخاصة لأنه حقل البحث، و موضوع تفصیلاته اللغویة، فیما أثبت البحث: أن مصطلح علم الأصوات: مصطلح عربی أصیل سبق إلیه علماء الإسلام و العربیة.
2- و عرض الفصل إلی تقسیم الصوت بین العرب و الأوروبیین فكانت دقة العرب أن توصلوا إلی تقسیم الحروف إلی طائفتین صوتیتین هما: الأصوات الصائتة و الأصوات الصامتة، و كانت هذه التسمیة دلیل الأوروبیین- فیما بعد- فی التقسیم إلی الأصوات الساكنة و أصوات اللین.
و توصل العرب إلی صفات هذه الأصوات فی مخارجها، و قسموا الصوت بعد ذلك إلی مجهور و مهموس، و شدید و مطبق، و سواهما، و هو ما توصل إلیه المحدثون بعد دراسات تشریحیة لأجهزة النطق.
و كان تقسیم العرب و المسلمین للأصوات باعتبار مخارجها مخططا
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 196
تفصیلیا لعملیة إحداث الأصوات مع تسمیاتها فی المصطلح الصوتی ذلك ما قاربه و حقق القول فیه علماء الأصوات المحدثون، و هم یسخرون لذلك أجهزة العلم الفیزولوجیة، بینما اكتشفه المسلمون و العرب بذائقتهم الفطریة الخالصة.
3- و عرضنا لتطور الصوت اللغوی فی التحول التأریخی لنظام الأصوات، و وقفنا عند التحول التركیبی الذی ینشأ عادة نتیجة لظواهر تغییر أصوات اللغة الواحدة، و استبدال صوت منها بصوت آخر، مما نشأ عنه مصطلح المماثلة عند استجابته للإبدال الصوتی الموقت، و مصطلح المخالفة فیما استجاب للإبدال الصوتی الدائم، و بحثنا المصطلحین فی شذرات أحسبها مفیدة، و عرضنا بعد هذا الجزء- فی ضوء تطور الصوت فی المقطع أو عند المتكلم- لظاهرتی النبر و التنغیم، و هما موضع عنایة عند العرب من الناحیة النظریة، مع فرض توافر لحاظه المشترك فی التّطبیق القرآنی.
4- و تناولنا نظریة الصوت اللغوی عند العرب فیما شهد بأصالته المحدثون من الأوروبیین و المستشرقین، فكان ما توصل إلیه العرب: عبارة عن المادة التخطیطیة لمئات الجزئیات، و عشرات الموضوعات الصوتیة المتخصصة مما أشاروا إلیه فی كتبهم مفردات منظمة متناسقة مثلت نظریة الصوت فی جمیع المستویات الصوتیة المعقدة، ابتداء من أجهزة النطق، و مرورا بكل التفصیلات المضنیة للأصوات، و انتهاء بأقیسة الزمان و المكان للصوت.
و كان الفصل الثانی بعنوان: منهجیة البحث الصوتی و قد عرضنا فیه لتأریخیة البحث الصوتی فی منهجیته العربیة المقارنة بالفكر الأوروبی الحدیث مما توصل معه البحث إلی أصالة المنهجیة الصوتیة عند العرب بدءا من:
1- الخلیل بن أحمد الفراهیدی و مدرسته الصوتیة، فرأینا الخلیل (ت: 175 ه) أول من وضع الصوت اللغوی موضع التطبیق الفنی فی مقدمة العین باعتبارها أول مادة صوتیة وصلت إلینا فی كتب اللغة، و تتبعنا ذلك فی أبرز إفاضات الخلیل فوجدناه قد نص علی تسمیة كل نوع من
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 197
الأصوات، و قد تذوق الحروف من مخارجها، و حدد كل صنف من أصناف الحروف المعجمیة علی بنیة صوتیة متمیزة عن سواها، و وضع مخططا شاملا لمخرج كل صوت إنسانی مضافا إلی حیزه الخاص، و عرض إلی التمایز الصوتی فی اللغة، فهو یری فی اللغة امتدادا طبیعیا للأصوات من خلال حصره للمعجم العربی بأبعاد صوتیة لم تخطئ و لا مرة واحدة.
2- و وجدنا سیبویه (ت: 180 ه) قد تأثر بمدرسة الخلیل الصوتیة فسار علی نهجه فی كثیر من الأبعاد، و اجتهد فی القسم الآخر، و كان له قدم سبق فی قضایا الإدغام، و تمییزه الدقیق بین صفتی الجهر و الهمس، و رأینا ابن درید- و هو امتداد لهما- یصدر فی الجمهرة عن علم الخلیل و منهجیة سیبویه، و یضیف بعض الإشارات الصوتیة فی ائتلاف الحروف.
3- و وقفنا عند الفكر الصوتی لأبی الفتح عثمان بن جنی (ت: 392 ه) باعتباره أول من استعمل مصطلحا فنیا للدلالة علی الأصوات سماه:
«علم الأصوات» و كان منهجه الصوتی مثار إعجاب للبحث بما صح أن یطلق علیه اسم الفكر الصوتی، لأنه یتمحّض لهذا العلم، و یعرض فیه عصارة تجاربه الصوتیة دقیقة منظّمة، و یتفرغ لبحث أصعب المشكلات الصوتیة بترتیب حصیف فی بحوث قیمة عرضت لجوهر الصوت فی كتابیه:
سر صناعة الاعراب و الخصائص.
و كان منهجه یضم تتبع الحروف من مخارجها و ترتیبها علی مقاطع، و إضافته ستة أحرف مستحسنة بأصواتها إلی حروف المعجم، و ثمانیة أحرف فرعیة مستقبحة بأصواتها، و یحصر مخارج الحروف فی ستة عشر مخرجا تشریحیا منظرا له بأمثلته، فكان فكر ابن جنی الصوتی قد حقق نظاما أصواتیا قارنّاه بالفكر الصوتی العالمی من خلال هذه الظواهر:
أ- مصدر الصوت و مصطلح المقطع.
ب- جهاز الصوت المتنقل.
ج- أثر المسموعات فی تكوین الأصوات.
د- محاكاة الأصوات.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 198
و كان ما قدمه ابن جنی تأصیلا صوتیا لكثیر من الملامح و الخصائص المكتشفة فی ضوء تقدم العلم الفیزولوجی الحدیث.
4- و عالجنا موضوع: القرآن و الصوت اللغوی، فوجدنا المباحث الصوتیة عند العرب قد اتخذت القرآن أساسا لتطلعاتها، و آیاته مضمارا لاستلهام نتائجها، فهی حینما تمازج بین الأصوات و اللغة، و تقارب بین اللغة و الفكر، فإنما تتجه بطبیعتها التفكیریة لرصد تلك الأبعاد مسخرة لخدمة القرآن العظیم.
و وجدنا أن جوهر الصوت العربی قد اتسم بالوضوح لأنه یتمثل فی قراءة القرآن، فكان القرآن هو المنطلق الأساس لعلم الأصوات فی مجموعتین دراستین هما:
الدراسات القرآنیة+ الدراسات البلاغیة.
و أعطینا مجملا صوتیا لكلا المنهجین.
و كان الفصل الثالث بعنوان: الصوت اللغوی فی فواتح السور القرآنیة.
و قد بحث بشكل دقیق المفردات الآتیة:
1- توجیه القرآن الكریم اهتمام العرب و المسلمین للصوت اللغوی منذ عهد مبكر للإفادة من الزخم الصوتی فی اللغة، و هو یستهل بعض السور القرآنیة بجملة محددة من الحروف الهجائیة التی تنطق بأصواتها أسماء، لا بأدواتها حروفا للإفادة من صوتیتها لدی الاستعمال دون حرفیتها، و قد شغل علماء الإعجاز القرآنی بالتصنیف الصوتی لهذه الحروف فی دلائلها الصوتیة، و أسرارها التركیبیة، و استیعابها لأنواع الأصوات و تقسیماتها كافة مجهورها و مهموسها، شدیدها و رخوها، مطبقها و منفتحها ... إلخ.
2- و عرض البحث لما أفاض الباقلانی فی تقسیمه أصناف هذه الأصوات، فجعلها مشتملة علی كل الأصناف الصوتیة فی النطق.
3- و تناول اهتمام الزمخشری بجدولة فواتح السور القرآنیة، و عدد
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 199
المهموس و المجهور، و الشدید و الرخو، و المطبق و المنفتح، و المستعلی و المنخفض، و حروف القلقلة، فسبرها تفصیلا و أورد المسمیات تخصیصا بعد تعقب حكمة هذا التركیب، و فلسفة هذه الأصوات، فكان اللّه سبحانه و تعالی قد عدد علی العرب الأصوات التی منها تركیب كلامهم إلزاما للحجة.
4- و وجد البحث أن الزركشی قد وقف عند الصدی الصوتی لهذه الحروف من عدة وجوه منها:
أ- عدد هذه الأصوات فیما ابتدئ به بثلاثة أحرف و علل ذلك صوتیا فی المخرج و اعتماد اللسان، و اعتبر ذلك مجاریا لأصل مخارج الحروف: الحلق، اللسان، الشفتین.
ب- تعقب ملاءمة بعض الأصوات لبعضها فی فواتح السور.
ج- تنبهه إلی علاقة بدء السورة بصوت ما، و اشتمال السورة علی صورة ذلك الصوت فی حروف كلماتها، أو دلائل عباراتها.
5- و لم یفت الفصل أن یستقری المراد من هذه الحروف و الأصوات فی بدایات السور، و أن یستجلی الحكمة من إیرادها، و أعطی كشفا تفصیلیا للآراء المتضاربة أو المتقاربة فی ذلك، و انتهی أنها من المتشابه الذی استأثر اللّه تعالی بعلمه، و لكن هذا لا یخرجها من جوهرها الإنصاتی فهی من جنس أصوات العرب، و هی من سنخ حروف معجمهم اللغوی، و من روح أصداء لغة القرآن العظیم، فهی إشارات الهیة لبیان إعجاز القرآن، و ذلك من جملة الفوائد المترتبة علی أسرار هذه الحروف.
و كان الفصل الرابع بعنوان: الصوت اللغوی فی الأداء القرآنی. و قد تناول الموضوعات الآتیة:
1- أصول الأداء القرآنی فی أول إشارة إلیه عند أمیر المؤمنین الإمام علی علیه السلام- فی معرفة الوقف و تجوید الحرف.
فتحدث عن الوقف فی مختلف الوجوه، و شتی الأحوال، لا سیما مصطلحاته الفنیة عند علماء الأداء.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 200
2- مهمة الوقف فی الأداء القرآنی، و قد عرض فیه إلی شیوع الوقف فی فواصل الآی بصورها كافة، و مقابلة ظواهر الاعراب فی علاماتها بالآیات التی تلتزم حرفا معینا، و التی لا تلتزمه فی أواخر الفواصل، و بیان فضله فی تناسق العبارة و تقاطرها، و هی مختلفة فی المواقع الاعرابیة.
3- نصاعة الصوت فی الأداء القرآنی، و قد تناول نصاعة الصوت فی إعطاء الحرف حقه من النطق المحقق الذی لا یشتبه بسواه، و نشوء مصطلح التجوید، و ابتناء قواعده علی مخارج الحروف صوتیا، مع كشف بتلك المخارج أدائیا.
و كان الحدیث عن خصائص كل صوت، و سمات كل حرف، تنفیذا عملیا للأداء القرآنی علی الوجه الأكمل.
4- الصوت الأقوی فی الأداء القرآنی، و قد عرض لظاهرة الإدغام عرضا وافیا لمقاربتها من ظاهرة المماثلة عند الأصواتیین المحدثین، فأبان حدّه و تفریعه و تقسیمه و تنظیره، و ربط بین ذلك و بین شقی المماثلة الرجعیة و التقدمیة، و قد ظهر من بین ذلك: أن الصوت القوی هو الذی یحتلّ مساحة النطق بدل الصوت الضعیف، فالصوت الأقوی هو المسیطر علی النطق. و عرض لدور أبی عمرو بن العلاء فی إرساء قواعد الإدغام و القول به، و تحدث عن الحروف التی تدغم فی أمثالها، و الحروف التی تدغم فی مجانسها و مقاربها، و نظر لذلك تطبیقا بكوكبة من آیات القرآن العظیم لكلا النوعین المماثل و المجانس. و قام برصد النتائج الصوتیة فی حصر الحروف التی تدغم فی أمثالها و أجناسها، و كشف الحروف التی تدغم و یدغم فیها، و خلص إلی رصد طائفة من الضوابط الصوتیة، و ألحق ذلك بدراسة عن الإظهار، و الإقلاب، و توسع فی التنظیر للإخفاء لكونه حالة بین الإظهار و الإدغام.
5- توظیف الأداء القرآنی فی الأحكام، و قد وجد البحث أن أداء القرآن فی ضوء التلاوة قد عاد موضوعا للأحكام الشرعیة الدقیقة فی ملحظ القراءة بالذات، و ذلك بأداء الحروف من مخارجها، و أن تكون هیئة كل كلمة موافقة للأسلوب العربی فی حركة البنیة و السكون و الاعراب و البناء و الحذف و القلب و الادغام و المد الواجب، و أمثال هذا فی عدة ملاحظ، أمكن رصدها بالآتی.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 201
أ- فی الملحظ الصوتی للكلمة الواحدة فی القراءة القرآنیة عند الصلاة، و تبلور أحكام ذلك فی جملة من الفروع.
ب- فی الملحظ الصوتی عند كون الكلمتین أو الأكثر بنفس واحد دون فصل أو وقوف فی طائفة من الأحكام.
ج- فی أحكام مخرج الصوت و نطقه، فی الكلمات و الحروف و الحركات، و الاعراب و البناء، و مظاهر الأداء فی مفصّل من المسائل.
د- فی الالتزام بمعطیات علماء الأداء القرآنی، و أئمة النحو العربی لإظهار أصول الأصوات فی الإحداث، و كذلك أحكامه الخاصة من التشریع.
ه- فی مراعاة أصول الإدغام، و اختلاس الأصوات و إبدالها، و قراءة القرآن بخصوصه، تحررت مسائل ذات ذائقة صوتیة متمیزة.
الفصل الخامس و كان بعنوان: الصوت اللغوی فی فواصل الآیات القرآنیة.
و قد تناول بالبحث المفردات الآتیة:
1- مصطلح الفاصلة فی القرآن، و أرسی أصولها علی قاعدة صلبة من الاصطلاح بحیث لا تشتبه بقرینة السجع، أو قافیة الشعر، و كانت التسمیة بسبب من إرادتهم تمیز القرآن و تشریفه عن مشاركة غیره له فی المسمیات.
2- معرفة فواصل القرآن صوتیا، و كان لذلك طریقان: توقیفی و قیاسی، و ظهر أن القرآن لا یلتزم فی الفاصلة الوقوف عند حرف معین فی مواضع من السور، و یلتزمه فی مواضع أخر، و یجمع بین الالتزام و عدمه فی بعض السور، فكان الانتقال فی فواصله أمرا شائعا و مطردا، و نماذجه هائلة.
3- ظواهر الملحظ الصوتی فی فواصل الآیات، و رصد فی عدة ملامح:
أ- زیادة حرف ما فی الفاصلة رعایة للبعد الصوتی.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 202
ب- حذف حرف ما فی الفاصلة رعایة للنسق القرآنی.
ج- تأخیر ما حقه التقدیم، و تقدیم ما حقه التأخیر، عنایة بالسیاق.
د- ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد و اللین و إلحاق النون- أحیانا- للتمكن من التطریب.
4- الإیقاع الصوتی فی موسیقی الفواصل، و قد عالج موافقة جملة من الآیات فی فواصلها و زنتها لجملة من بحور الشعر العربی، و قد ربط البحث مثل هذه السمات بالإیقاع الصوتی، و فسر ظواهرها صوتیا، لدفع بعض الشبهات حول القرآن، لأنه قد وجد فیه ما وافق شعرا موزونا، و كان وجود الفاصلة فیه هو الذی جعله كلاما ذا وزن إیقاعی ینظر فیه إلی غرضه الفنی مضافا إلیه الغرض التشریعی، و هما متعانقان. و تلك میزة ناصعة من مزایا الآیات باعتبار العبارات.
الفصل السادس، و كان بعنوان: الدلالة الصوتیة فی القرآن و قد عالج بأصالة استنتاجیة مظاهر الدلالة الصوتیة فی إذكاء حرارة الكلمة القرآنیة، و توهج عباراته، فلمس اللفظ المفرد، و تناغم الكلمة الواحدة فی وقع الجرس الموسیقی للصوت، و اقتصر علی مظاهر الدلالة فی مجالات قد تكون: متقابلة، أو متناظرة، أو متضادة، أو متوافقة، و قد كونت هذه الإشارات المركزة بمجموعها أبعاد الدلالة الصوتیة فی القرآن ضمن المفردات المدروسة الآتیة:
1- دلالة الفزع الهائل: و قد كشفت عن طائفة من الألفاظ التی استعملها القرآن تم اختیارها صوتیا بما یتناسب مع أصدائها فی السمع أو النفس أو الخارج، و استوحی دلالتها من جنس صیاغتها، فكانت دالة علی ذاتها بذاتها فی الفزع و الاشتباك و الخصام و العنف.
2- الاغراق فی مدّ الصوت و استطالته، و كشف عن مقاطع صوتیة مغرقة فی الطول و المدّ و التشدید رغم ندرة صیغة هذه المركبات الصوتیة فی اللغة، و نجد القرآن یستعمل أفخمها لفظا، و أعظمها وقعا فیستلهم من دلالتها صوتیا مدی شدتها و هدتها، و تستوحی أهلیتها بالتلبث الدقیق، أو تستقری أحقیتها بالترصد و التفكیر الحصیف.
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 203
3- الصیغة الصوتیة الواحدة، و هی ظاهرة جدیرة بالعنایة لتسمیة الكائن الواحد النازل، و الآخر المرتقب المنظور بأسماء متعددة ذات صیغة هادرة، بنسق صوتی متجانس، للدلالة بمجموعة مقاطعه الصوتیة علی مضمونه فی الإیحاء و الرمز، و بوقعه الخاص علی كنه معناه، و من ذلك تسمیة: القیامة فی القرآن بأسماء متقاربة الأبعاد فی إطار الفاعل المتمكن المرید، و الكائن الحی القائم 4- دلالة الصدی الحالم، فی استكناه الأصداء الرقیقة الهادئة لألفاظ ملؤها الحنان و الرحمة لدی تأدیتها معانیها ضمن أصواتها، و من خلالها مقاطعها، فتوحی بمؤداها مجردة عن التصنیع، و البدیع، فهی ناطقة بمضمونها، هادرة بإرادتها، دون إضافة بیانیة، أو إضاءة هامشیة.
5- دلالة النغم الصارم فی التماس أصوات الصغیر فی وضوحها، و أصدائها فی أزیزها نتیجة التصاقها فی مخرج الصوت، و اصطكاكها فی جهاز السمع، فهی فی الكلمات تؤدی مهمة الإعلان الصریح عن الحدث، و هی فی العبارة تجسد حقیقة المراد فی التأكید علیه، فتعبر عن الشدة حینا، و عن العنایة حینا آخر، مما یشكل نغما صارما فی الصوت، و أزیزا مشددا فی السمع.
6- الصوت بین الشدة و اللین، بملاحظة الصوائت و الصوامت من الأصوات، فالصوائت مأهولة فی الانفتاح المتكامل لمجری الهواء، فتنطلق مقاطعها فیه دون دویّ أو ضوضاء، فتؤثر فی الأسماع وضوحا و صفاء.
و الصوامت بخلاف هذا فهی تتسم بالضوضاء نتیجة احتباس الهواء، و جری النفس و ما ذلك إلا لتضییق مجری الهواء و اختلاسه، فتنطلق أصواتها محدثة الضجیج و الصوت الرنان، و كان تفسیر هذا و ذاك خاضعا بطبیعته لنماذج موفورة من ألفاظ القرآن العظیم.
7- الألفاظ دالة علی الأصوات، و قد توافرت فی القرآن طائفة من الألفاظ الدقیقة عند إطلاقها، بكون اللفظ یدل علی ذات الصوت، و الصوت یتجلی فیه اللفظ نفسه، بحیث یستخرج الصوت من الكلمة، و تؤخذ الكلمة من الصوت، و هذا من باب مصاقبة الألفاظ للمعانی بما یشكّل أصواتها، فتكون أصوات الحروف علی سمت الأحداث، فیبرز
الصوت اللغوی فی القرآن، ص: 204
بذلك تأهیل تسمیة الشی‌ء باسم صوته، و ذلك من دقائق القرآن.
8- اللفظ المناسب للصوت المناسب: و رأیت أن القرآن الكریم قد اختار اللفظ المناسب للصوت المناسب فی الموقع المناسب، فجاء كل لفظ بمكانه الصوتی من العبارة القرآنیة أو الجملة أو الآیة، و لاحظت أن استنباط كل هذه المقاسات صوتیا یوحی باستقلالیة الكلمة المختارة لدلالة أعمق، و إشارة أدق، بحیث یتعذر علی أیة جهة فنیة استبدال ذلك بسواه، إذ لا یؤدی غیره مراده، و ذلك معلم واضح من معالم الإعجاز اللغوی و البیانی فی القرآن.
كانت هذه أهم النتائج فی مفردات البحث، و خلاصة للجهود الصوتیة فیه علی وجه الإشارة و التمثیل، فشكلت بضم بعضها إلی بعض حیاة جدیدة فی مناخ القرآن لا أحسبها قد عولجت من ذی قبل باستقلالیة منظمة، فدلّ ما ورد فی البحث بكل جزئیاته و شذراته المتناثرة بین طیاته علی لمح ذی شأن فی أشعة هذا القرآن الذی یهدی للتی هی أقوم، عسی أن یكون لنا ذخرا یوم الدین، یوم یقوم الناس لرب العالمین، و صلی اللّه علی سیدنا محمد و آله الطیبین الطاهرین، و أصحابه المنتجبین و سلم تسلیما كثیرا.

تعريف مرکز القائمیة باصفهان للتحریات الکمبیوتریة

جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في سَبيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (التوبة/41).
قالَ الإمامُ علیّ ُبنُ موسَی الرِّضا – علـَیهِ السَّلامُ: رَحِمَ اللّهُ عَبْداً أحْيَا أمْرَنَا... َ يَتَعَلَّمُ عُلُومَنَا وَ يُعَلِّمُهَا النَّاسَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَوْ عَلِمُوا مَحَاسِنَ كَلَامِنَا لَاتَّبَعُونَا... (بَــنـادِرُ البـِحـار – فی تلخیص بحـار الأنوار، للعلاّمة فیض الاسلام، ص 159؛ عُیونُ أخبارِ الرِّضا(ع)، الشـَّیخ الصَّدوق، الباب28، ج1/ ص307).
مؤسّس مُجتمَع "القائمیّة" الثـَّقافیّ بأصبَهانَ – إیرانَ: الشهید آیة الله "الشمس آباذی" – رَحِمَهُ اللهُ – کان أحداً من جَهابـِذة هذه المدینة، الذی قدِ اشتهَرَ بشَعَفِهِ بأهل بَیت النبیّ (صلواتُ اللهِ علـَیهـِم) و لاسیَّما بحضرة الإمام علیّ بن موسَی الرِّضا (علیه السّلام) و بـِساحة صاحِب الزّمان (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرجَهُ الشَّریفَ)؛ و لهذا أسّس مع نظره و درایته، فی سَنـَةِ 1340 الهجریّة الشمسیّة (=1380 الهجریّة القمریّة)، مؤسَّسة ًو طریقة ًلم یـَنطـَفِئ مِصباحُها، بل تـُتـَّبَع بأقوَی و أحسَنِ مَوقِفٍ کلَّ یومٍ.
مرکز "القائمیّة" للتحرِّی الحاسوبیّ – بأصبَهانَ، إیرانَ – قد ابتدَأَ أنشِطتَهُ من سَنـَةِ 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریّة القمریّة) تحتَ عنایة سماحة آیة الله الحاجّ السیّد حسن الإمامیّ – دامَ عِزّهُ – و مع مساعَدَةِ جمع ٍمن خِرّیجی الحوزات العلمیّة و طلاب الجوامع، باللیل و النهار، فی مجالاتٍ شتـَّی: دینیّة، ثقافیّة و علمیّة...
الأهداف: الدّفاع عن ساحة الشیعة و تبسیط ثـَقافة الثـَّقـَلـَین (کتاب الله و اهل البیت علیهـِمُ السَّلامُ) و معارفهما، تعزیز دوافع الشـَّباب و عموم الناس إلی التـَّحَرِّی الأدَقّ للمسائل الدّینیّة، تخلیف المطالب النـّافعة – مکانَ البَلاتیثِ المبتذلة أو الرّدیئة – فی المحامیل (=الهواتف المنقولة) و الحواسیب (=الأجهزة الکمبیوتریّة)، تمهید أرضیّةٍ واسعةٍ جامعةٍ ثـَقافیّةٍ علی أساس معارف القرآن و أهل البیت –علیهم السّلام – بباعث نشر المعارف، خدمات للمحققین و الطـّلاّب، توسعة ثقافة القراءة و إغناء أوقات فراغة هُواةِ برامِج العلوم الإسلامیّة، إنالة المنابع اللازمة لتسهیل رفع الإبهام و الشـّـُبُهات المنتشرة فی الجامعة، و...
- مِنها العَدالة الاجتماعیّة: التی یُمکِن نشرها و بثـّها بالأجهزة الحدیثة متصاعدة ً، علی أنـّه یُمکِن تسریعُ إبراز المَرافِق و التسهیلاتِ – فی آکناف البلد - و نشرِ الثـَّقافةِ الاسلامیّة و الإیرانیّة – فی أنحاء العالـَم - مِن جـِهةٍ اُخرَی.
- من الأنشطة الواسعة للمرکز:
الف) طبع و نشر عشراتِ عنوانِ کتبٍ، کتیبة، نشرة شهریّة، مع إقامة مسابقات القِراءة
ب) إنتاجُ مئات أجهزةٍ تحقیقیّة و مکتبیة، قابلة للتشغیل فی الحاسوب و المحمول
ج) إنتاج المَعارض ثـّـُلاثیّةِ الأبعاد، المنظر الشامل (= بانوراما)، الرّسوم المتحرّکة و... الأماکن الدینیّة، السیاحیّة و...
د) إبداع الموقع الانترنتی "القائمیّة" www.Ghaemiyeh.com و عدّة مَواقِعَ اُخـَرَ
ه) إنتاج المُنتـَجات العرضیّة، الخـَطابات و... للعرض فی القنوات القمریّة
و) الإطلاق و الدَّعم العلمیّ لنظام إجابة الأسئلة الشرعیّة، الاخلاقیّة و الاعتقادیّة (الهاتف: 00983112350524)
ز) ترسیم النظام التلقائیّ و الیدویّ للبلوتوث، ویب کشک، و الرّسائل القصیرة SMS
ح) التعاون الفخریّ مع عشراتِ مراکزَ طبیعیّة و اعتباریّة، منها بیوت الآیات العِظام، الحوزات العلمیّة، الجوامع، الأماکن الدینیّة کمسجد جَمکرانَ و...
ط) إقامة المؤتمَرات، و تنفیذ مشروع "ما قبلَ المدرسة" الخاصّ بالأطفال و الأحداث المُشارِکین فی الجلسة
ی) إقامة دورات تعلیمیّة عمومیّة و دورات تربیة المربّـِی (حضوراً و افتراضاً) طیلة السَّنـَة
المکتب الرّئیسیّ: إیران/أصبهان/ شارع"مسجد سیّد"/ ما بینَ شارع"پنج رَمَضان" ومُفترَق"وفائی"/بنایة"القائمیّة"
تاریخ التأسیس: 1385 الهجریّة الشمسیّة (=1427 الهجریة القمریّة)
رقم التسجیل: 2373
الهویّة الوطنیّة: 10860152026
الموقع: www.ghaemiyeh.com
البرید الالکترونی: Info@ghaemiyeh.com
المَتجَر الانترنتی: www.eslamshop.com
الهاتف: 25-2357023- (0098311)
الفاکس: 2357022 (0311)
مکتب طهرانَ 88318722 (021)
التـِّجاریّة و المَبیعات 09132000109
امور المستخدمین 2333045(0311)
ملاحَظة هامّة:
المیزانیّة الحالیّة لهذا المرکز، شـَعبیّة، تبرّعیّة، غیر حکومیّة، و غیر ربحیّة، اقتـُنِیَت باهتمام جمع من الخیّرین؛ لکنـَّها لا تـُوافِی الحجمَ المتزاید و المتـَّسِعَ للامور الدّینیّة و العلمیّة الحالیّة و مشاریع التوسعة الثـَّقافیّة؛ لهذا فقد ترجَّی هذا المرکزُ صاحِبَ هذا البیتِ (المُسمَّی بالقائمیّة) و مع ذلک، یرجو مِن جانب سماحة بقیّة الله الأعظم (عَجَّلَ اللهُ تعالی فرَجَهُ الشَّریفَ) أن یُوفـِّقَ الکلَّ توفیقاً متزائداً لِإعانتهم - فی حدّ التـّمکـّن لکلّ احدٍ منهم – إیّانا فی هذا الأمر العظیم؛ إن شاءَ اللهُ تعالی؛ و اللهُ ولیّ التوفیق.